دور العامل الخارجي في الصراعات الداخلية

في 9 تشرين الأول (أكتوبر) 1944 أثناء قمة موسكو بين ستالين وتشرشل، قدم رئيس الوزراء البريطاني للزعيم السوفييتي قصاصة ورق صغيرة تحوي التالي، من حيث رسم خرائط النفوذ الداخلية في بلدان عديدة: (رومانيا:90% للسوفييت، بلغاريا: 75% للسوفييت، اليونان: 90% للبريطانيين، يوغسلافيا والمجر:50% لكليهما). قرأها ستالين للحظات وخطّ عليها كلمة (موافق).

بعد أربعة أيام دخلت القوات البريطانية إلى أثينا عند انسحاب الألمان من اليونان، بعد خشيتهم من قطع خطوط إمداداتهم مع تقدم الجيش الأحمر في البلقان. خلال ثلاث سنوات ونصف من الاحتلال النازي كانت المقاومة الشيوعية المسلحة، تحت اسم (جيش التحرير الشعبي اليوناني)، هي الفصيل العسكري الأقوى للمقاومة اليونانية، بالمقارنة مع الفصائل الأخرى التي كانت تتبع لحكومة الملك اليوناني اللاجىء في القاهرة تحت رعاية ودعم بريطانيين، مع انسحاب الألمان كان الشيوعيون في حالة سيطرة على أغلب الريف والمدن، وكان بمقدورهم أخذ البلد كله بالقوة، وقد كان جهازهم السياسي حاضراً من خلال (اللجنة السياسية للتحرير الوطني)، المسماة بـ(حكومة الجبل)، التي نافست منذ آذار (مارس) 1944(حكومة القاهرة) ذات الميول القومية- الملكية.

كان اتفاق تشرشل- ستالين هو المظلة للوجود العسكري البريطاني في العاصمة اليونانية، وقد مارس الزعيم السوفييتي الضغط على الشيوعيين اليونانيين لكي لايأخذوا العاصمة خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى تحطم علاقات الكرملين مع لندن، وعندما حصلت معارك لسبعة وثلاثين يوماً بعد مقتل 38 من المتظاهرين الشيوعيين يوم 3كانون الأول (ديسمبر) 1944 على أيدي القوات البريطانية وذراعها المحلية المتمثلة في حكومة بابندريو لم تنبس صحيفة (البرافدا) ببنت شفة تجاه الهزيمة العسكرية التي حاقت بالشيوعيين اليونانيين في شوارع أثينا على يد البريطانيين. من دون هذه السلبية السوفييتية ماكان ممكناً حصول (الإرهاب الأبيض) طوال عام 1945الذي ذبح فيه آلاف الشيوعيين اليونان، برعاية بريطانية، على أيدي منظمات يمينية عسكرية مثل (منظمة x) بقيادة جورج غريفاس، وسط حيرة القيادة الشيوعية اليونانية المنقسمة بين ضغط ستالين الكابح وضغوط قواعدها المطالبة بالتحرك العسكري، ووسط تشجيع الزعيم الشيوعي اليوغسلافي تيتو الذي كانت بوادر خلافاته مع الكرملين أول ما ظهرت في الموضوع اليوناني. عندما اتجهت القيادة الشيوعية اليونانية نحو التشدد منذ شباط (فبراير) 1946 فقد كان هذا ليس بتشجيع من ستالين، وإنما عبر استغلال محلي لبدء التوتر الدولي بين الغرب والشرق الناتج عن تجاوز ستالين لاتفاقياته مع الغرب في المجر وابتلاعه لبولندا، ولكن عندما نشبت الحرب الأهلية اليونانية بين آذار (مارس) 1946 وتشرين الأول (أكتوبر) 1949 فإنه لم يكن هناك أي غطاء سوفييتي للشيوعيين في صراعهم مع اليمينين القوميين- الملكيين، برغم الغطاء الأمريكي للأخيرين من خلال (مبدأ ترومان-آذار1947) الذي وصل إلى حدود التدخل الأمريكي المباشر بمساعدات ومستشارين، وهو ماساهم في هزيمة الشيوعيين بعد صراع دموي أودى بحياة عشرات الآلاف، وأدى إلى تهجير مئات آلاف الشيوعيين مع عائلاتهم إلى خارج اليونان، وتحويل جزر بأكملها إلى سجون خاصة للشيوعيين. كانت الضربة القاضية للشيوعيين هي فقدان السند الإقليمي المتمثل في يوغسلافيا، بعد انفجار خلاف ستالين مع تيتو في حزيران (يونيو) ،1948 واتجاه الأخير للتقارب مع الغرب أو، ل (الحياد الإيجابي)، مماجعلهم (أيتاماً) في أرض المعركة العسكرية أمام اليمينيين.

في الصراع الداخلي اليوناني (1944-1949) لم يكن (الداخل) هو المقرر- الحاسم بل (الخارج)، أي الاتفاق الدولي البريطاني- السوفييتي، ثم دخول واشنطن على الخط ضد الشيوعيين منذ آذار (مارس) ،1947 وهنا يلاحظ أنه أمام الحائط الدولي لم تستطع القوة المتفوقة في الداخل للشيوعيين أن تترجم لا عسكرياً ولا سياسياً على الأرض، فيما رجح هذا العامل الدولي الخارجي(دعم غربي وسلبية سوفييتية متفرجة) غلبة قوة داخلية أضعف هي اليمين القومي- الملكي بالقياس لقوة الشيوعيين العسكرية والسياسية ذات الامتداد الاجتماعي الداخلي الأقوى في فترة نيسان (إبريل)1941- آذار (مارس) ،1946 كما أن الدعم الإقليمي للشيوعيين من يوغسلافيا، وإلى حد أقل من الشيوعيين الألبان، لم يستطع أن يهز بناء الحائط الدولي الغربي- السوفييتي أو يصدّعه أو يخترقه.

في بولندا حصل شيء مشابه من حيث الآلية، ولكن في اتجاه معاكس: تُركت بولندا غير محسومة بين الشرق والغرب في قمة موسكو، وكانت تجري تطورات على الأرض في وارسو لماقامت قوات المقاومة البولونية التي كانت تتبع(حكومة لندن)ذات التوجه اليميني القومي- الكاثوليكي باستغلال تقدم الجيش الأحمر لكي تقوم بانتفاضة في العاصمة البولونية: وقف ستالين متفرجاً عند أبواب وارسو طوال شهري أيلول- تشرين أول 1944على الجيش الألماني، وهو يسحق المقاومين البولون اليمينيين المنتفضين، قبل أن يدخل العاصمة البولندية مجبراً الألمان على التراجع نحو الحدود الألمانية. في مؤتمر يالطا (شباط1945) مع تشرشل والرئيس الأمريكي روزفلت استطاع الزعيم السوفييتي انتزاع اعتراف لندن وواشنطن ب (حكومة لوبلين) الشيوعية، بوصفها هي (الحكومة الشرعية) لبولندا على أن يضاف إليها أعضاء من (حكومة لندن) اليمينية، التي قادت المقاومة البولونية منذ بدء الاحتلال النازي في أيلول (سبتمبر) 1939 والتي كانت أقوى على الأرض من الشيوعيين، مع وعد غامض من ستالين بإجراء انتخابات ديمقراطية لم يفِ به الزعيم السوفييتي: لم تؤدّ التسوية الدولية التي فرضت على الداخل البولوني إلى حرب أهلية مثل اليونان، ولكن قادت إلى حكم شيوعي ضعيف الجذور الاجتماعية الداخلية في بولندا، كان الأكثر تعرضاً للاهتزاز بين (نظم حلف وارسو)، كماحصل في عام 1956 وعامي1980-1981 ثم كان الأول في موجة سقوط نظم حكم (الكتلة الشرقية) بدءاً من شهر حزيران (يونيو) 1989.

خلال مؤتمر يالطا تكرست نتائج قمة موسكو، إضافة إلى رسم معالم المسألة البولونية وتقسيم ألمانيا: خلال أربع وأربعين عاماً لم يستطع العامل الداخلي اختراق جدار مارسم دولياً حتى من قبل الحاكم المحلي الذي أراد تجاوز المركز في موسكو، كماحصل في المجر 1956 مع رئيس الوزراء إيمري ناجي، وفي تشيكوسلوفاكيا 1968 مع سكرتير الحزب الشيوعي ألكسندر دوبتشيك، وفي كلتا الحالتين، عندما حسمت الدبابات السوفييتية الموقف، كانت واشنطن متفرجة في عملية احترام لحدود النفوذ التي رسمت في يالطا. لم ينهر البناء السوفييتي الإقليمي في (دول منظومة حلف وارسو) إلا عندما اختل الميزان الدولي بين واشنطن وموسكو، بعد طرح الرئيس ريغان في آذار (مارس)1983 ل(مبادرة الدفاع الاستراتيجية: حرب النجوم) التي تجاوزت حالة التعادل والردع النووي المتبادل التي انبنى عليها نظام الثنائية القطبية في فترة الحرب الباردة، ليجد هذا الاختلال الدولي ترجمته الإقليمية في انهيار نظم حلف وارسو عام ،1989 ثم الداخلية مع تفكك الاتحاد السوفييتي في الأسبوع الأخير من عام1991. وعملياً، إذا أردنا الدقة، رسم (الدولي) هنا حدود (الإقليمي) و(الداخلي) ومجالاته في 1989-1991 تماماً كما حصل في الأربعينيات، ولكن في اتجاه الانهيار هذه المرة، فيما كان (الدولي) في الأربعينيات هو الرافعة التي أقامت (الإقليمي) و(الداخلي).

كانت تلك الورقة الصغيرة المقدمة من تشرشل لستالين، المسماة بـ(اتفاقية النسب المئوية) (موجودة في مكتب السجلات العامة بلندن تحت رقم: PREM 3667، مثالاً على دقة خرائط النفوذ في أوربا ما بعد الحرب العالمية الثانية: عندما لم تكن تلك الحالة الأوربية موجودة في مناطق أخرى من العالم، أي عندما كانت هناك سيولة وانعدام للاتفاق الدولي على خرائط النفوذ في الإقليم ودواخله، فإن العامل الداخلي كان فاعلاً أمام العامل الخارجي، وهو ما رأيناه في فيتنام 1954 عندما قادت معركة (ديان بيان فو)13 آذار (مارس)- 7 أيار (مايو) ،1954 التي انتصر فيها الفيتناميون على الفرنسيين، إلى رسم نتائج مؤتمر جنيف الرباعي 26 نيسان (إبريل)- 20 تموز (يوليو) 1954 بين واشنطن وموسكو ولندن وباريس، من حيث تكريسه لوجود دولة شيوعية في شمال فيتنام.استطاع الشمال الفيتنامي من خلال امتداده الجنوبي في (جبهة الفيتكونغ) منذ1956 زعزعة الجنوب، وهو ماقاد لاندلاع الحرب الفيتنامية عام 1964 والتدخل العسكري الأمريكي، وقد كان العامل الدولي في موسكو وبكين، والإقليمي في كمبوديا ولاوس، تحت إيقاع حركية العامل الداخلي الفييتنامي المنطلق من هانوي وصولاً إلى الفيتكونغ في الجنوب، حتى تحقيق الانتصار الفيتنامي في ربيع عام 1975وسقوط سايغون وتوحيد فيتنام.

العدد 1107 - 22/5/2024