الولايات المتحدة تتراجع بخطا سريعة

دخلت الولايات المتحدة عدة مراحل تراجع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها منتصرة.

هل الولايات المتحدة الآن في مرحلة أفول؟ فما هي الأدلة على هذا الأفول؟

لعل أقوى الأدلة يكمن في نتائج استطلاع الرأي الذي جرى أخيراً على أيدي معهد (بيو) الأمريكي المتخصص في استطلاعات الرأي العام وشمل أكثر من ألفي شخص. تقول النتائج إن غالبية من الأمريكيين بلغت 53 في المئة رأوا أن الولايات المتحدة أصبحت تلعب دوراً أقل أهمية وقوة على صعيد العالم، مقارنة بالعقد السابق. وقد رأت نسبة وصلت إلى 70 في المئة من المشاركين في هذا الاستطلاع أن القدر من الاحترام الذي يبديه العالم تجاه الولايات المتحدة قد تراجع، ليصل إلى نسبة تساوي ما كان عليه في نهاية ولاية الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن. وبالنسبة نفسها تراجع الاحترام الذي كانت تحظى به الولايات المتحدة في العالم. وأن نسبة 52 في المئة من الأمريكيين ترى أنه أصبح يتوجب على الولايات المتحدة أن تهتم بشؤونها الخاصة على الصعيد العالمي، وأن تدع الدول الأخرى لتدبر أمورها على أفضل وجه يمكنها إحرازه.

والواقع أن هذه ليست المرة الأولى التي أصاب فيها الهبوط نظرة الأمريكيين إلى وطنهم. ولكنها المرة الأولى التي سجل فيها هذا الهبوط نسبة السبعين في المئة. هذه النتيجة تدق ناقوس خطر جسيم. ولا يمكن القول إن الولايات المتحدة ستعبر هذه المرة أيضاً هذا الانحدار، لتعود فتسجل نتائج أفضل أو أفضل بكثير، كما كان يحدث في الماضي. فهذا الهبوط بهذه النسبة العالية يرتبط بنتائج أخرى ذات دلالات مماثلة وتتعلق بشؤون أخرى غير ما يعتقده الأمريكيون بشأن نظرة العالم الخارجي إلى بلدهم (السوبر). ولعل أهم هذه النتائج الأخرى ما دل عليه استطلاع أجراه أيضاً (مركز بيو للأبحاث) من أن الأمريكيين أصبحوا يرون هوة آخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء الأمريكيين. إن مسألة اتساع هوة عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء في الولايات المتحدة تشغل الأمريكيين الآن أكثر مما شغلتهم من قبل. إن غالبية عالية تبلغ 65 في المئة بين الأمريكيين  كما تؤكد هذه الدراسة – أصبحت تدرك أن هذه الهوة تزداد اتساعاً، وأنها أصبحت بالنسبة إليهم عادة مألوفة. بينما لم تزد النسبة عن 20 في المئة بين أولئك الذين يرون أن الهوة باقية كما كانت منذ عشر سنوات. بل إن 7 في المئة فقط يذهبون إلى أن الهوة بين الأغنياء والفقراء الأمريكيين تتضاءل عما كانت.

اعترف الرئيس الأمريكي باراك أوباما بهذه الحقيقة، وقال إن الهوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء آخذة في الاتساع. ولعل اعتراف رئيس الولايات المتحدة بهذه الحقيقة يكون الأول من نوعه بهذه الصراحة. وهو يضاف إلى القول السائد الآن في الولايات المتحدة بأن هناك دولاً أخرى في العالم تنافس الولايات المتحدة، ليس فقط من ناحية الهوة بين الأغنياء والفقراء، إنما أيضاً من ناحية اختلاف نظرة الأمريكيين الأغنياء عن الأمريكيين الذين يحتلون مركزاً وسطاً بينهم. وأما الذين يعتقدون أن الأغنياء هم أكثر شراهة فتبلغ نسبتهم 55 في المئة.

لقد ارتفعت مداخيل الأغنياء وتراجعت مداخيل الفقراء ومتوسطي الدخل إلى أقصى ما يمكن تصوره. وإن الأبحاث التي تجرى بشأن الإعلام والمنظمات الإعلامية الأمريكية أظهرت (غلوبال ريسيرش في 5/12/2013) أن وسائل الإعلام الأمريكية وصلت إلى اقتناع تام بأنها (تواجه تحدياً يتمثل في أن الوقت قد حان لقول الحقيقة بشأن القضايا الأساسية للحرب والسلام والامبريالية والمساعدات (للبلدان الفقيرة) للتخلص من الأزمات المالية… ومشكلات تدمير البيئة والزيادة في العجز في ميدان العدالة الاجتماعية والحريات المدنية، والركود الاقتصادي وتراجع حقوق العمال والإحباط السياسي في الولايات المتحدة الشمالية).

ولم يفت الإعلام الأمريكي أن يؤكد أن الرئيس أوباما إنما يضع نفسه في موقع معارض لعدم المساواة في الولايات المتحدة، على الرغم من أنه (ترأس خلال السنوات الخمس الأخيرة حالة من النمو غير مسبوقة في درجة نمو اللامساواة الاجتماعية. إن التيارات المتشابكة لانعدام المساواة وتناقص الحركة تفرض خطراً على الحلم الأمريكي. والحلم الأمريكي هو طريقتنا في الحياة وما نمثله في أنحاء الكرة الأرضية). وتعبر هذه النشرة عما سبق أن سقناه من أمثلة التعبير عن حالة التراجع الأمريكية بقولها (إن الحقيقة الفعلية هي أنه خلال الفترة التي قضتها هذه الإدارة في الحكم، فإن 95 في المئة من المكاسب في مجال المداخيل قد كانت من نصيب الواحد في المئة الأغنى من الأمريكيين. إن أي فرد يملك احتراماً فاضلاً لوجهات نظر الناس العاديين إنما يجد نفسه مضطراً لشرح كيف حدث هذا على مرأى منه. ولكن أوباما لا يفعل شيئاً من هذا. إنه يعلن بدلاً من ذلك أنه خلال العام القادم وللزمن الباقي من رئاسته ستركز إدارته على محاربة اللامساواة). ويكفي في هذا المجال أن نذكر أن أسرة واحدة من أسر الواحد في المئة الذي يحتل القمة الأمريكية من حيث مستوى المداخيل تحقق دخلاً يساوي 288 ضعف دخل الأسرة العادية (…).

إنما الحقيقة هي أن الولايات المتحدة خرجت من القرن الماضي – أي منذ نحو 13 عاماً  في حالة مالية بالغة الصعوبة من شدة تدنيها. وتجد نفسها الآن مدينة بما يتجاوز 17 تريليون دولار. ولكن الهيئات التي أوصلت الولايات المتحدة إلى هذا المستوى المتدني مالياً – وفي مقدمتها (البنتاغون) – لا تزال مصرة على نمطها المروّع من الإنفاق السنوي.

هذه الأرقام تمثل في الواقع الفعلي حقيقة ما وصلت إليه الولايات المتحدة من ثراء داخلي لا يمكن في وجوده تصوّر المدى الذي بلغته مديونية الولايات المتحدة للعالم الخارجي.

إن اقتصادياً أمريكياً مرموقاً  هو مايكل سنايدر- كتب قبل أيام (في 29/11/2013) بحثاً مطولا عن (40 إحصائية حول سقوط الاقتصاد الأمريكي الذي لا يمكن لأحد موغل في البلاهة أن يصدقه). يقول إن حجم الدين الأمريكي لم يكن يتجاوز تريليون دولار في عام 1980 وهو يتجاوز اليوم رقم 17 تريليون دولار. وخلال الفترة الأولى من رئاسة أوباما جمّعت الحكومة الأمريكية الاتحادية أكثر من الديون التي جمعها أول 42 رئيساً أمريكياً مجتمعين. والدين العام الأمريكي يساوي الآن أكثر من 23 مثل ما كان عندما أصبح جيمي كارتر رئيساً. ويقول سنايدر مخاطباً المواطن الأمريكي: (لو أنك بدأت تسدد الدين الأمريكي الجديد وحده الذي راكمته إدارة أوباما أثناء حكمها بمعدل دولار واحد كل ثانية، فإنك ستستغرق أكثر من 184 ألف سنة لكي يتم التسديد (…).

 

(نقلاً عن السفير)

العدد 1105 - 01/5/2024