نحو عقد اجتماعي دولي جديد

من الأمور التي أعادت مقولة العولمة النظر فيها هي قضية العقد الاجتماعي الذي يقوم على المساواة التامة بين أفراد المجتمع. ومنذ ثلاثة عقود يتعرض المجتمع الدولي لمتغيرات متلاحقة، تبعاً للمرحلة التي يمر فيها بعد أن تجاوز مرحلة الصناعة إلى ما بعدها، أي إلى اقتصاد المعرفة الذي يقوم على الإبداع وعلى ابتكار أساليب ووسائل وتكنولوجيات جديدة تساعد على إحراز طفرات واسعة من التقدم والنجاح في مجالات عديدة وجديدة من العمل. وأدى ذلك إلى قيام علاقات جديدة متشابكة تقوم على أسس مغايرة لما هو معروف في السابق. ويعتبر العلم اليوم مصدر التقدم. وهو مصدر متجدد لا ينضب، على العكس من الموارد الطبيعية كالنفط والغاز والفحم الحجري والمعادن، التي لا بد من نفادها في المستقبل. وتستوجب المرحلة الاقتصادية الحالية تنظيم مختلف النشاطات الاقتصادية، بحيث أصبح من غير المقبول الحديث عن الاكتفاء الذاتي في أي من مجالات الاقتصاد، بل إن مفهوم الاكتفاء الذاتي أصبح من مخلفات الماضي. وقد نشأ عن هذا الوضع الجديد شعور ينادي بالتمسك بالهوية الخاصة. وهذه الأوضاع فرضت على العالم نتيجة الهجرات الواسعة وسهولة الاتصالات. وأصبحت التعددية مشكلة تواجه المجتمعات كافة في العالم. لذلك، ظهر عدم التكافؤ سواء في الحقوق أو الواجبات في طبقات المجتمع كافة. ومن بينها العلاقة بين الجنسين، والعلاقات بين العمال وأصحاب العمل، وبين المالكين والمعدمين، وبين الدول القوية المهيمنة والدول الصغيرة المستضعفة.

أدت العولمة إلى بروز واجبات للأفراد تجاه الدولة – الأمة في مختلف أنحاء العالم، في وقت تتراجع فيه سلطات الدول على الأوضاع المحلية، وعلى العلاقة بين مختلف مكونات المجتمع، وأصبحت الحاجة ماسة إلى البحث عن عقد اجتماعي جديد يضمن حقوق الأفراد في تنظيمات المجتمعات سريعة التغير.

إن التوجه إلى إقامة الكيانات الكبرى يقتضي الالتزام بمبادئ معينة للمحافظة على حقوق الصغار، كي يتم احتواء التوترات بين المكونات الاجتماعية المختلفة. هذا عدا سوء توزيع الثروة والناتج المحلي الإجمالي. ففي الولايات المتحدة، تذهب معظم نتائج النمو الاقتصادي إلى فئة صغيرة من أغنى الأغنياء. وهكذا تزيد اللامساواة بكل ما يترتب عليها من خلل في النظام الاجتماعي.

واعتماداً على ما تقدم، لا بد من وضع عقد اجتماعي جديد ينظم العلاقات بين الدولة والفرد، وبين أفراد المجتمع. إن العقد الاجتماعي الجديد يجب أن يقوم على أسس العدالة والمساواة، ومنظومة القيم التي تعمل على بناء المجتمع وتقوية مكوناته، وهذه القيم مستمدة من التراث الثقافي والتاريخي للمجتمع.

ويشير مصطلح العقد الاجتماعي إلى مجموعة من النظريات الفلسفية التي تتضمن موضوعاتها اتفاقيات وتوافقات تقوم عليها الركيزة الأساسية لبناء وتكوين الأمم والنظام الاجتماعي التي يحكمها، أي أن سلطة الدولة الشرعية يجب أن تكون مستمدة من رضا المحكومين. وهذا يعني تخلي الفرد عن بعض حرياته نظير الحصول على المزايا والمكاسب التي يضمنها له العقد المتفق عليه، وكل القوانين المنبثقة عن ذلك العقد. والعقد الاجتماعي مبني على إرادة جماعية عليا، على جميع أفراد المجتمع احترامها وقبولها والانصياع لها. ويعني ذلك الموافقة الضمنية والصريحة على كل بنوده التي تضمن الحقوق المدنية والواجبات مع احترام حقوق الآخرين. والعامل الحاسم في العقد الاجتماعي هو المشاركة الجماعية في وضعه، مع الاقتناع الكلي بكل التعاليم والمبادئ والتوجهات. وذلك كله يضمن له الاستمرار إلى مدى طويل، قد تغيره في ما بعد أحداث أو تطور اجتماعي بارز. وفي كل الأحوال، يجب أن يتضمن العقد مبادئ العدالة والمساواة في الظروف والأحوال كافة، وإبعاد مبادئ التمييز والتفرقة.

إن أي عقد اجتماعي لا بد له من أن يكون معبراً عن الآراء والتطلعات التي تسيطر على الشعوب في مختلف مراحل التاريخ. وكانت معظم العقود الاجتماعية في النصف الأول من القرن العشرين تركز على نقطة بالغة الأهمية هي العدالة الاجتماعية، التي انتكس تطبيقها مع بروز عصر العولمة الاقتصادية والسياسية. وفي كتاب جون رولز المسمى (نظرية العدالة)، الصادر عام 1971 في الولايات المتحدة، دعوة إلى عقد اجتماعي جديد ينظم العلاقات بين مختلف قطاعات المجتمع، ويقترح الكاتب اللجوء إلى العصيان المدني، كنوع من السلوك الاجتماعي لفرض تطبيق العدالة الاجتماعية.

ومن الكتب اللافتة في هذا المجال كتاب البريطاني ر.ج. كولزوود الذي صدر بعد الحرب العالمية الثانية، وفيه إشارة واضحة إلى حاجة المجتمع الدولي إلى عقد اجتماعي جديد يتلاءم مع ما استجد من أوضاع بعد تلك الحرب الأكثر دموية في التاريخ. وفيه يعرض أيضاً آراء عدد من الفلاسفة البريطانيين عن الحرية وعن سيادة الشعب. وهذه الأفكار ترجع إلى عهد التنوير الأوربي، وهي تركز على بذل الجهود لتوفير الرفاهية وإلغاء اللامساواة في المجتمع. وهو في ذلك يدعو إلى صوغ عقد اجتماعي جديد على أساس الحرية والمساواة. ويسود تشاؤم بشأن إمكان وضع عقد اجتماعي عالمي جديد، لأن لا حركة سياسة عالمية تساعد تلك الدعوة وتلتزم بتنفيذها، ولأن الأمر يتطلب توافر درجة عالية من الوعي المشترك بين الأمم والشعوب، والترفع عن البحث في المصالح الخاصة. إن ذلك ليس سهلاً في عالم يحتوي على أكثر من مئتي دولة، وعلى سكان يبلغون أكثر من ستة مليارات، مع ما يلازم ذلك من فوارق ترتبط باختلاف العرق والدين واللون واللغة والعقيدة السياسية.

عن (السفير)

العدد 1107 - 22/5/2024