محنة الديمقراطية العربية

أصبحت الديمقراطية مصدر خوف، عليها ومنها، وهو خوف لا مهرب منه، إذ مسموح لك في الاعتبارات الحالية أن تجوع وتعرى، أن تمرض وتموت، أن تكون موقعاً لكل المآسي، وأن تغتصب أرضك وحقوقك، أن تتقدم أو تتخلف، لكنك في عالم لا يقبل منك ألا تكون ديمقراطياً وعلى النموذج الغربي. هذا العالم لا يراقبك إن كنت تلتقط طعامك من القمامة أو تبقى أمياً، لكنه يحاسبك إن لم تعلن أنك ديمقراطي أباً عن جد.

أهمية الديمقراطية عبر عنها تشرشل بقوله إنها نظام سيئ، مع فضيلة واحدة، هي أنه لا يوجد أفضل منها. ولا يصح أن تكون موضع تهكم أو استهتار ونحن من يطلبها.

لكن إغفال كل شيء في سبيل إرضاء الغرب عن طريقها، هو ما يجب التنبه له، فقد دفعتنا الثقافة السياسية الغربية لاعتبارها الهم الأول.

هناك شك في ذلك، فالغرب لا يساعد جدياً في هذا المجال، ولا يهتم سوى بمصالحه حسبما أصبح معروفاً. ومثلما هو حريص على ألا نخرج من تخلفنا كي يحقق هذه المصالح، ولا يقدم المساعدة الفاعلة للخروج من التخلف، فكذلك هو في شأن الديمقراطية التي يطالب الشعوب بها مشفوعة بحقوق الإنسان، يستخدمها ورقة ضغط. ومع سعي البلدان المتخلفة والضعيفة لمسايرة الغرب، وقد بدا ادعاء التوجه الديمقراطي أحد مداخل هذه المسايرة، فإنه لا أحد في هذه البلدان يصدق حرص الغرب على نشر الديمقراطية في بلادنا، وهو يعرف مردودها عليه، والذي لن يكون كما يرغب، لتناقض مخرجاتها مع مصالحه التي تكشفها مطالبه.

أول مظاهر محنة الديمقراطية في مجتمعاتنا العربية، غلبة الثقافة التقليدية على من يفترض أنهم منخرطون بها، وعدم اندفاعهم لتحقيق مناخات ديمقراطية في بلدانهم، وبعضهم يعلن العداء لها وينكر انسجامها مع معتقداته، وهذا مبحث آخر. كما يتدرج غير هؤلاء في مدى قبولهم أو حماسهم لها. فمنهم المثقف المندفع، وبعض المنخرطين في العمل السياسي ممن يعلنون معارضة أنظمتهم، ومنهم من لم ينشغل بها لعدم بيان ما تقدمه له الديمقراطية التي يريد منها مردوداً مباشراً أو سريعاً يغطي بؤس حياته التي لا تحتمل المردود المؤجل أو البعيد. بمعنى آخر إن الفئات المهمشة مُنعت، بفعل الديكتاتورية والفاشية، وبفعل ضعف وعيها الطبقي، وعدم جديتها، وإلحاقها بالحكام، وفشل قياداتها، من أن تكون ذات إرادة فاعلة تقودها إلى مشاريع ديمقراطية ناجحة، ما أدى إلى فشل تجاربها لضعف وعي الضامن الاجتماعي.

المحنة تتبدى في انصياع الجماهير للزعيم الذي أنتجه مجتمع أهلي لا يزال غارقاً فيه، وتنقاد له إن قادها خارج الديمقراطية، أي إلى أن يستبد بها، ويكون احتجاجها على ذلك ضعيفاً غير مكافئ. وهنا تتلاقى مصالح الأنظمة مع مصالح الغرب.

من مظاهر المحنة، إضافة إلى الاستعصاء الحاصل في بلدان كثيرة، أن الديمقراطية لا تتجاوز الشكل حين يتقرر الانخراط فيها، بسبب ضعف الثقافة والتأهيل الضامن لها، وضعف التوجه العلماني، وضعف المجتمع المدني، وهذه الأمور (العلمانية، العقلانية، المجتمع المدني) هي ما يجعل الديمقراطية مشروعاً حقيقياً فاعلاً. بالتالي إن ضمانات بقاء الديمقراطية في مسارها السليم وتعميق تجربتها بحيث يصبح المواطن حريصاً عليها، تكون ضعيفة، أو يتم التراجع عنها، بدل أن تكون قادرة على تصحيح مسارها عند الانحراف عنها، فتغتني بتكرار التجربة كاللجوء إلى الانتخابات، وذلك يحتاج إلى الصبر الذي قد لا يحتمله الكثير من الناس.

من مظاهر محنة الديمقراطية في بلادنا أيضاً، حيث يشكل الفقر والجهل وضعف الحيلة مستويات تشمل أغلب الناس، ما يجعل الأقوياء يسيطرون دون القيام ببرامج إنقاذ، وما يجعل مشكلات الفقر تتفاقم، وتزداد تبعية الفقراء لأصحاب الرأسمال ولسادة القبائل والطوائف الذين يقودونهم، وما يجعل اللجوء مجدداً إلى الديمقراطية يعيد إنتاج الكارثة عبر صناديق الاقتراع.

بعض المحنة قد يأتي من زاوية الشكلية في تطبيق الديمقراطية، فاللجوء إلى الصناديق لن يضمن ألا تستولي الفئات الرجعية والفاشية على الحكم محافظة على ما يرضي الغرب الذي تضمن سكوته عن ممارساتها، وهي تعلم أن عدم رضاه سيجلب عليها الضغوط مهما كان التزامها الشروط الديمقراطية دقيقاً. والغرب لا يهمه في هذه الحالة سوى اللجوء إلى شكلانية الاقتراع التي لا يرضى أن تجلب إلى الحكم من لا يرضى عنه.

مظاهر محنة الديمقراطية في البلاد العربية عديدة وذات فرادة، تختلف من بلد إلى بلد، ويمكن قراءتها في مواقعها، إذ يزيدها التطبيق الخاطئ عمقاً وامتداداً وارتباكاً، حتى لتبدو الاستعصاءات غير قابلة للاختراق. ونحن إلى هنا نقول، لا بد أن يكون للمخاض آلامه، ومن لا يصبر عليه لن يحصل على مواليد جديدة.

هنا لا بد أن نتجاوز بعض البلدان التي لا تدرك تغير الأزمان محافظة على انسداد الأفق الديمقراطي، مثل السعودية و(محميات، مشيخات) الخليج التي تتجاهل آفاق التحولات السياسية الاجتماعية في العالم، لما تحمله لها من نفي التسلط والاستبداد الذي يقوم مشروعها عليه، بالبطش وأساليب زراعة الخوف. وليس السكوت مظهراً للرضاى من قبل المحكومين المملوكين، إذ في منطق الحياة لا أحد يرضى أن يكون مملوكاً.

للكويت من بين هذه المشيخات ديمقراطيتها الصندوقية التي تعطلها إرادة الأمير والعائلة، وهي إرادة حاسمة، ما يجعل الديمقراطية منتقصة، مع فرادتها في منطقة الخليج. أما في البحرين فقد تلونت إرادة التوجه نحو الديمقراطية بلون طائفي سهّل أبلستها المصطنعة، وجعل الفرقة تحدّ من قبول طرف لطرف آخر نتيجة لما كرسته إرادات ومصالح قوى خارجية، ظهرت في تدخل عسكري سافر لقمع الحراك الديمقراطي.

في بلدان النظام الملكي، لا تكون الديمقراطية بخير في المطلق، إلا بمقدار ما تكون قادرة على تجريد الملك من صلاحيات الحكم، أما الملكية في المقلب الآخر، حيث الملك حاكم، ولا يذكر إلا مسبوقاً اسمه بمصفوفة من كلمات أو عبارات التبجيل، وعلى الجميع مهما علت مراتبهم أن ينحنوا لتقبيل يده أو يد أحد أطفاله عندما يلتقون بهم، في مشهد قريب من العبودية. فكيف تكون السلطات ديمقراطية إذا كان الملك قادراً على نقض القوانين والدستور إن وجد، بموجب أحكام هذا الدستور، كما لا يصبح القانون قانوناً بانسجامه مع الدستور، ولا بإرادة الشعب وممثليه، بل بإرادة الملك؟!

بدا للمحنة طعم آخر، ظهر مذاقه في الجزائر مؤخراً، حتى لكأن نساءها عقمن فلم يعدن قادرات على إنجاب رئيس آخر، ما دعا لإعادة انتخاب الرئيس السابق وهو في حالة واضحة من العجز المانع للقيام بالنشاطات التي يتطلبها موقعه. ومع أن انتخابه قد أعيد مرات سابقة، وأبدى نجاحاً في مهمته، لكن بئس البلاد التي لا يصلح لقيادتها من أبنائها سوى شخص واحد.

في مشهد سينمائي مغربي، يسير رجل مخمور متمايلاً أواخر الليل في أزقة مدينة، فيرى كتابة على الحائط بقطعة فحم تقول: (فكرة الزعيم هي الكل)، فينحني ملتقطاً قطعة الفحم المرمية، فيشطب العبارة ويكتب: (فكرتنا هي الكل وبلا زعيم)، لكن قبل أن ينهي الزقاق مشياً، كان رجال الأمن يقودونه إلى المعتقل، في إشارة إلى وضع الديمقراطية. وهنا نتذكر ما ورد في مسرحية (حياة غاليلو) لبريخت، إذ يرد على لسان أحد الطلاب (شقيّ البلد الذي لا بطل له)، فرد غاليلو: (شقي هو البلد الذي يحتاج إلى بطل).

في العراق دشن الأمريكي ديمقراطية بلون وشائجي (مذهبي، طائفي، قبلي، أقوامي)، وإذا كانت في تجربتها الأخيرة (الانتخابات) قد عبرت عن سلبيات أقل، فهي لا تزال تعيد إنتاج ما بنيت عليه من وضع تقسيمي بذر الأمريكي بذرته التي لن يكون العراق قادراً على منع نموها، فعندما يستيقظ وحش الانتماءات المسبقة، لا يكون من السهل دفعه للخمود بسهولة وقريباً. نستدل على ذلك بما أورثته فرنسا للبنان يوم ساهمت في بناء ديمقراطيته، فقد حرصت على إبقاء ما عليه ينقسم اللبنانيون إلى الأبد، مع توفر كثير من المعطيات التي تجعل من لبنان واللبنانيين ذوي توجه نحو الحداثة التي تناقض الوشائجية.

أما في البلدان التي دخلت إلى ربيعها (القارس القائظ) بعد معاناة مع الاستبداد، فإن تونس لا تزال تشير إلى تعثر ديمقراطيتها نتيجة انتهازية الإسلام السياسي الذي ركب الموجة في ذروتها، وبفعل ما يتمتع به من تنظيم وتماسك، على عكس القوى الأخرى، ومع أنه من القوى التي لم توصف أو لم تصنف ديمقراطية عبر تاريخ القوى الفاعلة سياسياً، فقد تمكن من الإمساك بزمام السلطة.

انتهازية الإسلام السياسي في مصر دفعته ليركب مركب الحراك بعد إقلاعه، ونتيجة التنظيم المحكم من بين القوى الأخرى، سيطر الإسلاميون على الحكم، ما أظهر فاشيتهم الفاضحة، وإيديولوجيتهم التي لم يخفها رئيس الجمهورية المنتخب منهم، والذي ظهرت محنة الديمقراطية في تصرفاته كحاكم لبلاد متنوعة كما ذكرت سابقاً، فقد خاطب جمهوره في خطاب عام: (يا أهل السنة والجماعة) و(يا أهلي وعشيرتي)!

وهل من محنة للديمقراطية أفظع من أن تقع رهن أنياب طائفية مفترسة، يغذيها عقل أحادي التوجه وسلاحه رفض الآخر وإخضاعه؟!

واكتملت الكارثة بأن لم يوجد من يتصدى له سياسياً ويسقطه بالرغم من المواجهة الجماهيرية، سوى العسكر. وهؤلاء لهم محاذير في السياسة، وتجاربهم فيها غير مطمئنة، في الوقت الذي ينالون فيه إعجاب الناس واحترامهم وهم في مواقعهم على الحدود مع العدو وفي الخنادق وعلى متون الدبابات والطائرات، دون منابر الوعظ والخطابة والسياسة.

في اليمن وليبيا تتلاعب بالبلاد العصبيات والميليشيات والتدخل الخارجي، وانقسام الزعامات غير المنتمية إلى الديمقراطية، مع أن الجميع لا يتوانون عن إعلان انغماسهم التاريخي والثقافي في الديمقراطية، وكلهم يطمعون في أن يصدق الغرب استجابتهم لمعاييره، ومعاييره لا تريد غير ضمان أن يكون الحكام الجدد لديهم قابلية قبول تدخل ممثلي مصالحه في كل كبيرة وصغيرة عند هؤلاء، أما الديمقراطية فمتروكة للعصبيات والإيديولوجيات في حالة تخبط المجتمعات الأهلية.

كيف نكون ديمقراطيين ونحن في حالة تبعية، تدار بلداننا من قبل القوى الامبريالية والخارجية بالروموت كونترول، وتشعل بيننا الحروب ساعة تشاء، حول قضايا تخص السماء، وتحت زعم الديمقراطية. فتنهب في ظل ذلك ثرواتنا وهي تغذي حروبنا، حروب الأهل والأشقاء والمؤمنين، وتلحقنا بمكائنها الاقتصادية حيث نغطي بأموال نفطنا فشل اقتصادها وأزماتها الخانقة وحروبها المدمرة ضدنا؟

لم تنجح القوى اليسارية ولا القومية في إرساء ديمقراطية فاعلة، فالتحقت بغيرها، وغاية ما فعله الليبراليون العرب المباهون بديمقراطيتهم، أن حاولوا وضع بلادهم تحت وصاية الغرب، واستدعوا جيوشه لتأديب العصاة من حكامنا، فاحتلوا بلادنا مجدداً أو حاولوا، وجددوا جرعات التفرقة.

العدد 1107 - 22/5/2024