السياسة بين الديالكتيك والنزعة الانتقائية الساذجة

السياسة والماركسية والديالكتيك ليست مفاهيم معجمية يمكن أن يدار حديث عابر حولها وحول أسلوب ممارستها بين الحين والآخر، وليست مفاهيم أنتجتها مرحلة من مراحل تطور البشرية، وهي ليست ثابتة لا يعاد النظر فيها أو استبدال ما شاخ فيها، أو تصويبه. ولكنها مفاهيم دائمة التغير مثل الحياة نفسها، وتغيرها لا يتحقق تلقائياً، كما هو الحال في الطبيعة وقوانين تطورها وحركتها الدائمة، وإنما يحققه تطور المجتمع وعلاقات الإنتاج، واصطفافات القوى الصاعدة، ونشاطها الدؤوب للدفاع عن مصالحها.

فالسياسة علم يدرس الأفكار السياسية وتطورها، ويدرس وينقد المؤسسات السياسية والأحزاب والفئات السياسية والرأي العام والعلاقات الدولية، وهي بحسب الموسوعة الفرنسية: فن حكم الدولة. وعلم السياسة يركز على معرفة حكم الدول والمبادئ التي تقوم عليها الدولة وتحدد علاقتها بمواطنيها، وبالدول الأخرى!

وبحسب حسن صعب، فإن السياسة هي علم يمارس النقد المنهجي الدائم للمسلمات والأحوال والأنظمة السياسية (علم السياسة ص 18).

ويعود لماركس وإنجلز الفضل في اكتشاف الروابط الوثيقة بين الاقتصاد والسياسة، وإدراك أهمية دراسة القوى الاجتماعية والاقتصادية التي تتحكم بالدولة. وتفنيد مقولة هيغل الذي رأى (أن الدولة تحقق الفكرة الأخلاقية لصورة العقل وذاتيته)، إذ رأيا أن الدولة هي نتاج مجتمع في مرحلة معينة من التطور، وهي قوة فوق المجتمع تقف لتهدئة التناقضات والصراعات بين طبقاته وفئاته، وتزداد غربة عنه! ورأى لينين أن السياسة هي تعبير مكثف عن الاقتصاد (حول الديالكتيك ص 92)، والديالكتيك ليس جدلاً كلامياً بحتاً فحسب، كما يتصوره بعض المشتغلين في الأحاديث السياسية والنخبويين الساعين إلى لفت الأنظار وإلى إدهاش المستمعين والمحاورين بدرجة اطلاعهم، وببراعتهم في الشروح والاقتباسات والحجج اللفظية والاستنتاجات الرغبوية، ولكنه تربية واحتراف وتعلم وتعليم للآخرين، ومراكمة للتجربة العملية، ودراسة متأنية مثبتة لها، وتصويب  الأخطاء بمزيد من الاحتراس والجد، وحساب دقيق ورؤية معمقة للعلاقات بالقضية المعنية من جميع النواحي السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية خلال تطورها الملموس، وهذا مختلف عن الانتقائية التي يتجلى قصورها النظري والعملي معاً في انتزاع قطعة من هنا ومقبوس من هناك، أو نظرتها المتسرعة الضيقة إلى مشكلة معقدة عبر (إما أو)، وموقفها النظري الانتقائي (هذا وذاك).

وهذه التفاتة إلى تمييز لينين بين الرؤية الديالكتيكية الماركسية والرؤية الانتقائية الخاطئة، في نقده لرؤيتي الرفيقين بوخارين وتروتسكي، المنظرين المعروفين في الحزب الشيوعي الروسي بشأن مهام النقابات. وكان بوخارين وتروتسكي قد  ألقيا خطابين حول الموضوع، صدرا بكراسين عام 1921.

وكان تروتسكي قد أشار في خطابه إلى سياسة (نفض) قيادة النقابات، ثم تراجع عنها، ورأى مع زينوفييف أن النقابات مدرسة للشيوعية من جهة، وهي من جهة أخرى جزء عضوي من أجزاء الجهاز  الاقتصادي وجهاز سلطة الدولة على العموم، وأيد بوخارين هذا الرأي في موضوعته التي نشرها بجريدة (البرافدا) في 16 كانون الثاني عام 1921.

وفنّد لينين الخطأ النظري الأساسي في هذه الموضوعة، المتمثل بالاستعاضة عن ديالكتيك الماركسية بالانتقائية (المنتشرة خاصة بين أصحاب مختلف النظم  الفلسفية (الرائجة) والرجعية)، وباستخدام المنطق الشكلي الكلامي، بدلاً من المنطق الديالكتيكي الماركسي، ورأى أن المنطق الشكلي يكتفى به في المدارس، وفي الصفوف الدنيا منها، إذ يحصل الدارس على تعريفين للشيء أو الفكرة المدروسة.

أما المنطق الديالكتيكي فهو يتطلب السير أبعد، ودراسة الجوانب جميعها للموضوع المعني، وأخذ جوانبه وعلاقاته وتوسطاته بالحسبان، والانتباه إلى تطوره وحركته الذاتية (كما يقول هيغل) وتغيره. والنظر إلى الممارسة الإنسانية ـ من حيث كونها مقياس الحقيقة والمعرّف العملي للموضوع، من حيث صلته بحاجات البشر، والحقيقة كما رآها هيجل وبليخانوف دائماً ملموسة. ص 105.

ويطبق لينين هذا المنطق الديالكتيكي على موضوعة بوخارين الانتقائية، ويقول: يتناول بوخارين مسألة النقابات على أنها مدرسة من جهة، وجهاز من جهة أخرى، دون أقل دراسة ملموسة، وعبر تجريدات بحتة، آخذاً فقرة من عند زينوفييف، وفقرة من عند تروتسكي، وهذه هي الانتقائية الميتة عديمة المعنى، لأننا إذا نظرنا إلى النقابات ديالكتيكياً ـ برأي لينين ـ لرأينا أنها مدرسة، وجهاز، ومنظمة للشغيلة، ومنظمة للعمال الصناعيين، ومنظمة حسب فروع الإنتاج.. وخزان لسلطة الدولة، ومدرسة للإدارة وتسيير الاقتصاد، ومدرسة للتضامن، ومدرسة للدفاع عن مصالحها.. إلخ. أما نظرة بوخارين إلى هذه المسألة كما طرحها تروتسكي في مؤتمر النقابات الخامس لعامة روسيا، أو في كراس (المنهج) فهي غير صحيحة، وهي خطأ جذري يقتضي الرجوع عنه.

وهذه محاولة لتطبيق المنطق الديالكتيكي الماركسي على رؤية التيارات (العلمانية والديمقراطية واليسارية) وممثلي هذه التيارات ضمن فصائل المعارضة السياسية داخل سورية وخارجها للأزمة السورية. ولسبل الخروج منها، ومقارنتها برؤية الحزب الشيوعي السوري الموحد.

لقد نظرت التيارات (المعارضة) للسلطة وللدولة السورية، إلى هذه الأزمة، وإلى المشهد السوري، من زاوية واحدة، وأهملت الجوانب العديدة الداخلية والخارجية المتصلة بهذه المسألة الشائكة، واستنتجت أن الاستياء والحراك والاحتجاجات التي انطلقت في عدد من المناطق السورية هي (ثورة) و(ربيع) و(منعطف لإسقاط النظام)، ورأت أن تحقيق هذا الهدف الأخير ـ بأية وسيلة ـ (سيكون لمصلحة الشعب السوري ولوحدة سورية واستقرارها).

وبرغم التغييرات والمعطيات المدققة التي كشفتها السنوات الثلاث من فصول الأزمة، فإن هذه التيارات المعارضة ظلت متمسكة بمنطقها الشكلي الانتقائي الضيق، وبأن (الثورة مستمرة ومشروعة)، وبأن التدخل الخارجي (العربي والإقليمي والغربي) في الأزمة السورية غير موجود، ورأت أن التغيرات التي تجري في الجوار والمنطقة والعالم لا علاقة بها بما يجري في سورية (كذا). وأن الحوار مع السلطة السورية لإيجاد مخرج للأزمة ـ استناداً لبيان جنييف أو برعاية إقليمية أو دولية ـ لن يجدي نفعاً.

أليست هذه الرؤية لأزمة شغلت العالم كله انتقائية وساذجة ومتهافتة، إذ نظرت إلى الأزمة وتعقيداتها وتشابكاتها مع أزمات المنطقة وملفاتها المزمنة على أنها (ثورة)، ورأت أن الظروف الدولية والتناقضات والاستقطابات الحادة والاندماجات وتداعياتها الكارثية (ظروف مواتية للحظة الانعطافية)، واكتشفت أمراً لم تسبق إليه:  (أن الليبرالية الجديدة والدول الإمبريالية داعمة  للثورة وحاضنة لتطلعات الشعوب)، ولم تنتبه إلى جانبين في تفاعلات الأزمة لهما مدلولات مهمة: أولهما تأكيد الأمم المتحدة وبيان جنيف والدول الموقعة عليه والدول الإقليمية أن الحل السياسي هو الوحيد الملائم للخروج من الأزمة، وأن الحوار بين السوريين هو الأساس لهذا الحل، والثاني كشف أجندات للمجموعات المسلحة لا علاقة لها بمصالح الشعب السوري، وتورط دول غربية بشكل مباشر في الأزمة السورية بغضّ الطرف عن تجنيد مواطنين، أو إرسال عسكريين وضباط استخبارات وأسلحة وعتـــاد إلى الأراضي السورية خلافاً  لأي قانون دولي.

أما الرؤية التي صاغها الحزب الشيوعي السوري الموحد للأزمة وتداعياتها وتحولاتها، ولسبل الخروج منها، والتي استند فيها إلى المنطق الديالكتيكي الماركسي فقد لحظت مختلف جوانب الأزمة من حيث مقدماتها وعواملها الداخلية، والمتغيرات والعواصف التي تدور في المنطقة والإقليم، وما يجري في العالم من أزمة لدى محور الهيمنة الإمبريالي، ومن حضور لأقطاب الاقتصادات الصاعدة، التي ترى أن التعددية القطبية والمصالح المتبادلة واحترام القانون الدولي تشكل دعائم الاستقرار العالمي.

وأكد الحزب منذ بداية الحراك السلمي ضرورة الحوار الواسع، ونبذ العنف، وصولاً إلى حل سياسي يؤمن إصلاحات جذرية تشريعية وإدارية واجتماعية وديمقراطية تلبي المطالب المشروعة للشعب السوري. ورأى أن الفلاحين والعمال والقوى اليسارية والعلمانية وقوى المجتمع المدني كلها لها مصلحة في إنجاح الحل السياسي، وأن تحالفها يحدث فرقاً في جدية بلوغ هذا الهدف.

وكان الحزب قد لفت في مؤتمره الحادي عشر (آذار 2011) عشية الاحتجاجات الأولى إلى المقدمات التي تجري في الداخل وفي المنطقة والعالم، وتنذر بانفجارات اجتماعية، وإلى ضرورة مراجعة النهج الاقتصادي، وإجراء إصلاحات اجتماعية ملموسة، كما لفت إلى ضرورة الانتقال إلى التعددية والشراكة في الوطن نصاً وروحاً.

وأعتقد أن أهمية المنهج الديالكتيكي الماركسي عائدة إلى تراكم الخبرة السياسية والاقتصادية لمستخدميه، وقراءتهم  المتأنية الصبورة المدققة للواقع، ومعرفة الترابطات والتأثيرات الداخلية والخارجية على القضية المعنية، ولن يتوفر ذلك دون اندماج بالناس ومعايشة لمشكلاتهم  الأساسية، ودفاع عن حقوقهم.

العدد 1107 - 22/5/2024