ما بعد منتصف الحلم بقليل!

… في زمن مضى… وفي حصة التاريخ، فيما يسترسل أستاذ التاريخ في سرد وقائع وأحداث معينة، تأخذني الذاكرة (في شطحات) تذهب إلى ما بين فواصل الحكايات، والسياقات المجتزأة من حكاية التاريخ بوصفه رواية ما، وفي زعمي – على طريقة الأغنية الشهيرة (مسافر زاده الخيال) – بتّ أهجس:

– ماذا لو رجع الزمن بي إلى الوراء مئة عام مثلاً، أين سأكون؟ وتنهال الصور عذبة كما يرتبها الخيال بالذات: ربما في حقل ذي زرع وماء كثير وجداول متهادية كلحن الصباح، أو في قصر منيف لا ترحل عنه الشمس، بل تستبقي ضوءها داخل جدرانه العالية وفي أروقته الممتدة كشرايين القلب، فيما تصدح الثغور بالأغاني ويتكئ النرجس على القلوب المترعة بالغناء، لأتنحى جانباً، فثمة موكب مهيب على إيقاع طبول يمر بقربي الآن تطاول النظر ليرى من في الموكب لكن حشداً من الناس حال دون أن أرى، أحد ما يلكزنني من أنت؟ ومن أين أتيت؟ هيه أنت يا غريب، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ تُرى هل أرسلك أحد إلينا؟ تراءت لي الخانات المكتظة بالمسافرين وأحد ما يقود حصاناً ليستريح ويتناول ما يتيسر له من طعام، ثمة صبية يلهون ويحاولون التجمهر حولي، ومنهم من حاول لمسي لكأنني لستُ من الأرض!.

دارت بي الأمكنة، فأي مكان سأختار الذهاب إليه، وبأي لغة سأتحدث، هل سأكتفي بلغة الإشارة التي أزعم أن الجميع يفهمها، على الأقل يدركون ما أريد. ضحكت في سري ما الذي أريده حقاً؟ وفيما أنا أجول ببصري تناهت إلى مسامعي أصوات جميلة وهادئة، اقتربت أكثر فرأيت خمسة من الرجال يتحاورون وينطقون بكلام لعلهم فلاسفة يتجادلون ويتحاورن وحوارهم خصب ولمّاح، حتى إذا ما اشتد أواره لعلك تسمع شعراً قالته العرب وفيه من الأُحجيات الكثير، لم أشأ أن أفسد جلستهم، فمضيت وأنا أستمتع بمرئياتي غير عابئ بمن يصيح بي ولم ألتفت، من أنت؟ ومن أتى بك إلى هنا؟ فإذا لم تجب فسنقودك مخفوراً لنعرف ما هي بالضبط قصتك!

وقلت في نفسي من جديد: لله در مدرس التاريخ كيف فتح بوعي أو دون وعي، أمامي أبواباً لعلي عثرت على مفاتيحها وأنا أطوف في أماكن كنت أجهلها، وإذا ما تعبت تركتنفسي لتأخذ قسطاً من الراحة في بساتين تكاد ثمارها تدنو من ثغري، إذ تفوح منها روائح بالغة العذوبة، هممت بتناولها. ثمة من يصيح بي من جديد: أيها الغريب، ارحل فأنت لست من هنا، عد من حيث أتيت!

وعندما قررت أن أعود أُغلقت جميع البوابات أمامي، ترى من يستضيفني الليلة؟ وبأي لغة سأقدم نفسي؟ قلت لأمض لشأني غير مكترث بالنتائج، فهي رحلة لا شأن للعودة منها إلى غير أرض وغير زمان.

ولعل المخيلة هنا كريمة بما يكفي أن تدعني أذهب في كل الطرقات، وحسبي أنها سوف تؤدي إلى مكان ما لست أعرفه، قاصداً إياه لأبحث عن حلقة مفقودة، وأقول لمدرس التاريخ: ها قد ربحت الحكاية كاملة، وسوف أذكرك بالأماكن التي لم تزرها وبالشخوص الذين لم تعرفهم! هنا دارت بي الأرض دورة كاملة وكادت قدماي أن تنزلقا في حفرة ربما هي شرك لاصطياد الغرباء، وبدأ جسدي يغور في الأرض وأنا أرفع كلتا يدي منادياً، لعل أحداً ما يسمعني، هي أصابع مدرس التاريخ تشدُّ قميصي مباغتاً إياي بسؤاله الدائم: هل أنت معنا؟ مازلنا نتحدث عن غزوات التتار والمغول وجنكيز خان وهولاكو لنرى ماذا فعلوا بالناس وبالأرض، وكيف تقدمت جحافلهم لتجتاح كل شيء، الأرض والضرع، لكن باباً كبيراً فُتح على عجل، دخلت منه كائنات غريبة تتكلم بلغة غير مفهومة، كأني هنا بشخوص رواية تمردت على مؤلفها وألقته أرضاً، وخرجت من السطور الصفراء لتتوغل في كل المساحات وسيوفها تلتمع في ضوء شمس غاربة، نظرت في وجوههم فلم أعرفهم، فهل اندلق كتاب الأساطير الرجيمة، اندلق حبره العتيق ليضحي كائنات تلتهم وقتنا ودمنا، وتأخذنا إلى اللا مكان وإلى اللا زمان!.

 التقت عيناي بعيني مدرس التاريخ وصرخنا معاً: تباً لهذا المنام، تباً لهذا المنام!.

ما بعد منتصف

الحلم بقليل!

 

 … في زمن مضى… وفي حصة التاريخ، فيما يسترسل أستاذ التاريخ في سرد وقائع وأحداث معينة، تأخذني الذاكرة (في شطحات) تذهب إلى ما بين فواصل الحكايات، والسياقات المجتزأة من حكاية التاريخ بوصفه رواية ما، وفي زعمي – على طريقة الأغنية الشهيرة (مسافر زاده الخيال) – بتّ أهجس:

– ماذا لو رجع الزمن بي إلى الوراء مئة عام مثلاً، أين سأكون؟ وتنهال الصور عذبة كما يرتبها الخيال بالذات: ربما في حقل ذي زرع وماء كثير وجداول متهادية كلحن الصباح، أو في قصر منيف لا ترحل عنه الشمس، بل تستبقي ضوءها داخل جدرانه العالية وفي أروقته الممتدة كشرايين القلب، فيما تصدح الثغور بالأغاني ويتكئ النرجس على القلوب المترعة بالغناء، لأتنحى جانباً، فثمة موكب مهيب على إيقاع طبول يمر بقربي الآن تطاول النظر ليرى من في الموكب لكن حشداً من الناس حال دون أن أرى، أحد ما يلكزنني من أنت؟ ومن أين أتيت؟ هيه أنت يا غريب، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ تُرى هل أرسلك أحد إلينا؟ تراءت لي الخانات المكتظة بالمسافرين وأحد ما يقود حصاناً ليستريح ويتناول ما يتيسر له من طعام، ثمة صبية يلهون ويحاولون التجمهر حولي، ومنهم من حاول لمسي لكأنني لستُ من الأرض!.

دارت بي الأمكنة، فأي مكان سأختار الذهاب إليه، وبأي لغة سأتحدث، هل سأكتفي بلغة الإشارة التي أزعم أن الجميع يفهمها، على الأقل يدركون ما أريد. ضحكت في سري ما الذي أريده حقاً؟ وفيما أنا أجول ببصري تناهت إلى مسامعي أصوات جميلة وهادئة، اقتربت أكثر فرأيت خمسة من الرجال يتحاورون وينطقون بكلام لعلهم فلاسفة يتجادلون ويتحاورن وحوارهم خصب ولمّاح، حتى إذا ما اشتد أواره لعلك تسمع شعراً قالته العرب وفيه من الأُحجيات الكثير، لم أشأ أن أفسد جلستهم، فمضيت وأنا أستمتع بمرئياتي غير عابئ بمن يصيح بي ولم ألتفت، من أنت؟ ومن أتى بك إلى هنا؟ فإذا لم تجب فسنقودك مخفوراً لنعرف ما هي بالضبط قصتك!

وقلت في نفسي من جديد: لله در مدرس التاريخ كيف فتح بوعي أو دون وعي، أمامي أبواباً لعلي عثرت على مفاتيحها وأنا أطوف في أماكن كنت أجهلها، وإذا ما تعبت تركتنفسي لتأخذ قسطاً من الراحة في بساتين تكاد ثمارها تدنو من ثغري، إذ تفوح منها روائح بالغة العذوبة، هممت بتناولها. ثمة من يصيح بي من جديد: أيها الغريب، ارحل فأنت لست من هنا، عد من حيث أتيت!

وعندما قررت أن أعود أُغلقت جميع البوابات أمامي، ترى من يستضيفني الليلة؟ وبأي لغة سأقدم نفسي؟ قلت لأمض لشأني غير مكترث بالنتائج، فهي رحلة لا شأن للعودة منها إلى غير أرض وغير زمان.

ولعل المخيلة هنا كريمة بما يكفي أن تدعني أذهب في كل الطرقات، وحسبي أنها سوف تؤدي إلى مكان ما لست أعرفه، قاصداً إياه لأبحث عن حلقة مفقودة، وأقول لمدرس التاريخ: ها قد ربحت الحكاية كاملة، وسوف أذكرك بالأماكن التي لم تزرها وبالشخوص الذين لم تعرفهم! هنا دارت بي الأرض دورة كاملة وكادت قدماي أن تنزلقا في حفرة ربما هي شرك لاصطياد الغرباء، وبدأ جسدي يغور في الأرض وأنا أرفع كلتا يدي منادياً، لعل أحداً ما يسمعني، هي أصابع مدرس التاريخ تشدُّ قميصي مباغتاً إياي بسؤاله الدائم: هل أنت معنا؟ مازلنا نتحدث عن غزوات التتار والمغول وجنكيز خان وهولاكو لنرى ماذا فعلوا بالناس وبالأرض، وكيف تقدمت جحافلهم لتجتاح كل شيء، الأرض والضرع، لكن باباً كبيراً فُتح على عجل، دخلت منه كائنات غريبة تتكلم بلغة غير مفهومة، كأني هنا بشخوص رواية تمردت على مؤلفها وألقته أرضاً، وخرجت من السطور الصفراء لتتوغل في كل المساحات وسيوفها تلتمع في ضوء شمس غاربة، نظرت في وجوههم فلم أعرفهم، فهل اندلق كتاب الأساطير الرجيمة، اندلق حبره العتيق ليضحي كائنات تلتهم وقتنا ودمنا، وتأخذنا إلى اللا مكان وإلى اللا زمان!.

 التقت عيناي بعيني مدرس التاريخ وصرخنا معاً: تباً لهذا المنام، تباً لهذا المنام!.

العدد 1104 - 24/4/2024