حكايات مقهى ضيعتنا

قبيل حلول ذاك الربيع.. لم تكن ضيعتنا جنة ولم يكن أهلها ملائكة، كان ثمة فقر يثقل الكواهل وهموم تجثم على الصدور.. كانت ثمة آمال لا تزال تتمسك بأهداب الرجاء، وأحلام تأبى إلا أن تداعب الخيال مهما بددها الصباح.

في ضيعتنا..ورغم كل ما كان.. كانت الديوك تُنذَر للضيوف، والخراف تنذر للأعياد والأعراس، أما الأبناء فللحقول والبساتين والبيادر.

في ضيعتنا.. كانت الصبايا يردن نبع الماء كل أصيل، فيصدرن عنه مثقلات بجرار ماء يسقين به غراس الزيتون وعرائش الياسمين، وبجرار عسل يروين به بذور أمل بوعود وعهود أجلها موسم خير موعود.

في ضيعتنا.. رغم كل ما كان.. كان ثمة مقهى يتقاطر إليه السمّار كل مساء من كل حقل وبيدر، يتحلقون حول طاولاته المنحوتة من جذوع أشجار السنديان، يشربون الشاي و المتة والزوفا، يدخنون المعسّل والتنباك، يلعبون الطرنيب وطاولة الزهر، يتداولون في شؤونهم وشؤون غيرهم، يتفاخرون بمغامرات العشق على دروب النبع وبمغامرات الصيد في الوديان والجبال، يتجادلون في كل شأن وأمر.. في لحم السمّن ولحم الحجل أيهما أطيب، في علي الديك ووفيق حبيب أيهما أطرب، في ميسي ورونالدو أيهما ألعب، يسمعون سعدو الحكواتي يروي بطولات أبي زيد الهلالي والزير سالم وعنترة بن شداد.

في ضيعتنا الصغيرة الوادعة الرابضة على ذرا الجبال.. كان وياما كان، ولكن الحياة كانت تمضي قدماً.. بطيئة حيناً.. مهرولة حيناً، ولكنها حتماً كانت تمضي إلى الأمام.

.. تلبدت السماء واكفهرت الآفاق ولاحت بوادر الربيع المشؤوم..

في ضيعتنا.. وجم الناس، تركوا مقهاهم ولبدوا في بيوتهم، تسمّروا أمام شاشاتهم يتسقطون أنباء ربيع غامض حلّ في غير الأوان، حاروا في أمره، ضربوا أخماساً بأسداس فما ظفروا بما يهدىء روعهم و يبدد شكوكهم.. ويطمئن خوفهم على آمالهم وأحلامهم المؤجلة، خوفهم على حقولهم وبساتينهم وبيادرهم..على عرائش ياسمينهم.. على فقرهم وهمومهم، ولبثوا على خوفهم إلى حين..

إلى حين وصول جثمان أول شهيد.. هاجت الضيعة وماجت.. ناحت النائحات.. زغردت الصبايا.. وزمجر الرجال، وفي اليوم السابع حلّت سكينة عين الإعصار، انقشعت غيوم الشك والحيرة وسطعت شمس اليقين ورددت الوديان صدى نداء صامت غاضب تلقفته أفئدة ساكنة وقلوب ثابتة فلبّت النداء.

وأد الناس خوفهم.. تناسوا فقرهم..تصاغرت همومهم.. تعملقت أحلامهم وآمالهم.. غادر الرجال حقولهم وبساتينهم وبيادرهم وتركوا معاولهم ومناجلهم لنسائهم وفتيانهم.. قال قائلهم: لكل مقام مقال.

ولهذا المقام مقال ليس كمثله مقال.. مقال رضعوه مع حليب أمهاتهم، شربوه مع ماء نبعهم، سمعوه ترنيمة في مهادهم، رددوه أنشودة في حقولهم وبيادرهم، أهزوجة في مواسمهم وأعراسهم.. مقال ورثوه صورة معلقة في صدور بيوتهم تروي حكاية شيخ جليل اعتلى ذروة المجد متنكباً بندقية (عصملية) مئتزراً صفوف (فشك). وأما النظرة الغامضة الهائمة في الأفق البعيد فسرّ ما لبث أن انكشف إشارة لا تقبل التأويل: لحكايتي بقية ستأتيكم بعد حين.. حين تتكالب الذئاب وتستذئب الكلاب وتعوي النعاج.. ذاك يومكم فدونكم الميادين وأنتم وما تسطّرون.. وانداحت مواكب المجد تنشُد بقية الحكاية.. مئة شهقة أدمت القلوب.. مئة زغرودة مضرجة بالدموع، مئة صورة علّقت على الجدران.

في ضيعتنا.. مازال ثمة فقر وهموم.. آمال لمّا ولن تتحقق.. أحلام دفنت.. وعود بترت.. جرار عسل هشّمت، ولكن رغم كل ما كان..

في ضيعتنا.. عاد السمّار يتقاطرون إلى المقهى كل مساء من كل جبهة وميدان، يتداولون قصص المعارك والغارات والكمائن والاقتحامات، قصص الجوع والعطش والحرمان، يتفاخرون بقصص البطولات والانتصارات، يتجادلون في الدفاع والهجوم أيهما أجدى، في الشيشاني والأفغاني أيهما أجهل، في هذا الملك وذاك الأمير أيهما أخوَن، يروون ويروون وسعدو الحكواتي قابع في ركنه القصي صامتاً ينصت إلى حكايات أغرب من الخيال، حتى إذا ما بزغ الفجر تأبطوا أدعية الأحبة تعاويذ ورقى، وعادوا إلى ميادينهم يحدوهم الأمل بكتابة فصل الحكاية الأخير والعودة إلى بساتين صار زيتونها أينع وأنضر.. إلى حقول وبيادر صارت سنابلها أزهى وأثقل.. إلى عرائش صار ياسمينها أندى وأبهى.

العدد 1104 - 24/4/2024