شكلهم مضيء.. وباطنهم منطقي

إذا غنى الطير أغنيته فوق قمة جبل، أو حملها ونزل ليصدح بها من أعماق الوادي، فعلى ماذا ينبغي أن نحكم؟

أعلى المكان الذي غناها منه، أم على جمال الأغنية وسحر ألحانها، وصدق كلماتها وبلاغتها؟

وإذا كان الثوب وسخاً ورائحته لا تطاق، هل يشفع له من يرتديه، ولو صعد به إلى الأماكن المرتفعة؟ أليس بيننا ـ يا جماعة ـ من هم دون مستوى التنك والخردة ونفايات المنازل، ومع ذلك نجدهم يتصدرون الواجهات في أي مناسبة، لا لشيء إلا لأن أجدادهم كانوا كذا.. وفعلوا كذا.. وحكوا كذا وكذا.. أما هم فلم يتعبوا إلا على تصفيف شعورهم، وحلق لحاهم أو إطالتها، ألا يشبهون التماثيل وقطع الثياب والأثاث المعروضة في واجهات المحلات التجارية وصالات البيع؟!

(إن الجاهل المغرور يقف دائماً في المقدمة ليراه الناس، والعاقل الحكيم يجلس في المقاعد الخلفية ليرى الناس).

اليابس لن يثقل أو يكسوه الزهر والثمر مهما حاولنا تعطيره، ورعايته، والتنك لن تزيد قيمته إذا وضع وحشر بين صفائح الذهب وقطع العاج.

ومن غرائب هذا الزمن اللئيم وعجائبه، وقلة عقل بعض الناس، أنهم يقيسون القائل من حيث يقف ويغني أغنيته أو يطلق كلامه، لا من حيث معنى القول ومغزاه، فهم يحملون الأمتار والمكاييل، وأمتارهم ومكاييلهم وأوزانهم لا صلة لها بواقع الحياة وقيمها.

فإذا سكن خفاش ضال في قلعة عظيمة اعتبروه عظيماً، وإذا لجأ ثعلب وأقام عند سفوح الجبال العالية ظنوا أن طبعه تغير بمجرد استنشاقه هواء القمم. البعض ـ وهم قلة قليلة ـ قادر على التحليق والارتفاع بوعيه وبخياله ليرى أبعد من المكان الذي يقف فيه، أو يقيم عليه، وبعضهم ـ وهم الأكثرية ـ مهما ارتفع، وحاول أن يجمّل ثيابه، ويصفّف شعره، ويعطّر وجهه، فلن يرى أبداً أبعد من أنفه وشفتيه.

(ولا أبشع من العين الجميلة التي لا تفرح بشيء مثلما أن تقع على القروح والأوساخ والدمامل، شأنها في ذلك شأن الذباب والبعوض، ولا أفظع من لسان يأكل العسل في كل يوم، ولا ينطق إلا كلاماً جارحاً سمّه أقتل من سموم العقارب: كثر هم الذين يتراكضون ويتزاحمون ليقفوا في الصدارة وواجهات المضافات لتراهم الناس وهم يثرثون.. وما أرخص الكلام حين يكون ثرثرة تخنق بدخانها الصدور، وتعمي برائحتها العيون، وما أغلى الاتزان، وما أعظم الصمت حين يعبر عن مواضيع ومعاني يعجز الكلام عن التعبير عنها أو الوصول إلى أعماقها.

إن الإنسان العالم الفهيم، المتزن الحكيم (لا يتبجح ولا يحيط ذاته بهالات المجد والشرف، ولا ينفخ لذاته بالمزمار، فإذا هو فعل انقلب إلى ضده، ولكنه يعطر الأرجاء من حوله، أينما وجد، كما تعطر البنفسجة أو الزنبقة حقلاً من الشوك والهشيم).

العدد 1104 - 24/4/2024