ضفاف

يحملك على كفيه وتحت أجنحته تستتر، يأخذك إلى دفء في برد الشتاء، يمدك بنسمات عليلة في حر الصيف، تحت قدميه يدفن الشجن لتسرع إلى أحضانه متنعماً بالملكوت، فيهب لك اتساع الجنة لأنك من صلبه ولدت، مترعرعاً في كنفه، فكان الأب، وكنت الابن.

وإذا ما اجتاحه هبوب عاصف واختل توازنه، تجد حالك قطعة مرمية على أرض قاحلة صلبة بعيدة كل البعد عن نعمة الوطن، حيث تفقد الروح، وهي أهم الأشياء التي تركتها عالقة بين طياته ترفرف حوله وأنت تبحث في حقائب المدى المفقود عن رداء يغطي العري، بينما قميصك المنسي هناك اقتسمه صراع الوحوش البشرية وعلى أشلاشه يقترعون،  بعد أن طرحك على أبواب الغربة في حلكة الليل حين انبجس الحقد الدفين، فباتت الأرض لهيباً تقذف الحمم في كل الاتجاهات دون أن تفرق بين بر وبحر، حتى السماء شاركت معها، فهطلت ناراً فوق نار، ومن معبر بين الناريين هرعت هارباً نحو لهيب الاغتراب.

هناك تجول العيون في الأماكن تفتّش في الحقائب المُحكمة عن ذكرى تأخذك إلى الحنين، تحلق معها نحو فضاء الديار لاهثاً وراء ذرات هوائها كي تلامس برفقتها الحجارة والتراب، فتمسح بعبير القبلات سطحها، وعلى وجنتيك دمعتان تعود معهما لترمق بحسرة الزوايا الفارغة من تلك الضفة التي تعيش فيها، تنتظر، ويطول انتظارك اقتراب الروح المتروكة في الضفة الأخرى. وبين الضفتين تمتد الأعوام لترتفع سداً من مسافات فاصلة. فكيف حالك وأنت في غربة بلا ضفاف حين لم تودّع أحداً ولا تغادر من حولك، لكن نفسك هي من أحكمت الحقائب ورحلت وبقيت مقيماً بين أهل وأقارب وأصدقاء، لم تبرح مكانك وأنت على مقعدك تشدو.. تعزف أجمل الألحان ترتل للنجوم للضياء، لكن الإصغاء كان من نصيب الجدران، والآخرون تجاهلوا غناءك الطيب، لأنك متمسك بالمبادئ ولا تبالي إلا بالقيم النبيلة، تفرح للسلام وتكره الحرب، وترفض العيش بين قطعان من الوحوش اللصوص التي تجعلك معبراً لها كي تتضاعف صفقاتها، فكلما ازداد حزنك وبؤسك امتلأت خزائنها بأموال النهب والسرقات، وإذا كنت محباً صادقاً تؤمن بعقيدة الحب والعطاء بين جمع يكفر بإيمانك، فيرجمك بجمر النظرات لتطرح خارج حدودهم وتبقى وحيداً مشرداً تدور في مكانك باحثاً عن ذاتك المسلوبة على أرض الوطن الذي يغدو سراً دفيناً يداهم النفس كلما عطشت أو جاعت.

العدد 1105 - 01/5/2024