الهزيمة الوجدانية… الجانب المخفي من الأزمة السورية

إذا كان بعض الباحثين يعتقد أن الأفعال النقدية المتمثلة المنعكسة عن الأدب والفن المرئي، والتي تغض السلطة الطرف عنها، هي في النهاية تكرس بقاء سيطرة السلطة على المجتمع، إلا أنه لا يمكن التغاضي عن أن النتاج الأدبي والفكري والفني، هو الفضاء الذي تزدهر فيه الحيوية المعرفية، وفيه يحتدم الصراع الفكري بطريقة تفاعلية بين ضغط ممارسات السلطتين السياسية والاجتماعية من جهة، ورد فعل الوعي الجمعي للطبقة المثقفة عليهما من جهة أخرى، من خلال الرؤى الابداعية. إن الطيف المثقف هو صانع هذه الرؤى من خلال تفرده عن المجتمع في نظرته إلى القلق، عبر العوالم الخاصة التي يعيش بها. ولأن الطيف المثقف يدرك ذاته فإنه يقبل الخيال باعتباره لغة خاصة للواقع، وهو يرى مجتمعه من خلال رؤاه، التي هي مرآة لا تعكس الواقع إلا بقدر ماتعكس جواباً لاستلهامه، ولا توصّف الحقيقة كما هي موجودة في المجتمع، إلا بقدر ما يحلًق بها إبداعه. وإذا كان الإبداع هو إطلاق التجليات الخلاقة للعقل فلأنه يعد جزءاً منها. إن حيوية التخيل وفراسة الرؤى ونقد الواقع هي حيثيات عقلية دالة على الإبداع. ولا وجود للإبداع دون نقد ودون إيمان بالتغيير. والإبداع بذاته متغير، فهو ليس سوى تحول من التحولات التي تلحق بالوعي، تحت ضغط أنواع القمع المختلفة التي أتت على الإنسان المشرقي عموماً. غير أننا يجب أن نكون واقعيين وبعيدين عن العواطف الجياشة. لم يكن الإبداع في الكينونة الفكرية للمجتمع السوري سياقاً متماسكاً ذا تطور تاريخي أدى الى خلق بنية فكرية ثقافية ووطنية عضوية منسجمة. بل ظهر متناثراً زمنياً، فقد قفز الإبداع هروباً في الزمن محتفظاً بوهجه ضد كل أنواع القمع والهيمنة، لكن بقي على حافة التآكل والاندثار. من هنا كان فعل الإبداع مرتبطاً بالسياق الزمني أكثر منه بالبنية التكوينية، أي انتفى الفعل التراكمي في تكوين الإبداع وتجذره. لذلك لايمكن النظر إلى الإبداع في سورية من تلك النقاط المضيئة فقط، بل بنظرة كلية إلى حضوره المتناثر، رغم أن بنية الإبداع حاولت إدماج تناثرها ووجدت صيغة عابرة للزمن هي مواجهتها المستمرة مع الموروث الديني والسلطتين السياسية والاجتماعية. لذلك يمتاز الكتّاب والأدباء والفنانون عن غيرهم من الناس العاديين، بأنهم يستطيعون توصيف البؤر المقلقة من ديناميكية المجتمع، والتي قد تكون مؤهلة لأن تنفجر في أي لحظة. هم يطرحون رؤى معرفية ليست بالضرورة ضد بنية دلالات السلطة، ولكنها على الأقل متجانبة عنها. من هنا نلاحظ أن إهمال الواقع الاجتماعي والسياسي للطيف المثقف على مدى عقود عدة، جعله طيفاً اغترابياً، مهاجراً ومتقهقراً عن بيئته المشرقية والمحلية. فكان للمجتمع السوري أن هُزم وجدانياً قبل عام 2011 عندما اندلعت الأزمة السورية، دون أن تتوجس عنها كلمة أو تلتقطها هواجس مبدع كان قد ضاع في زمن الإهمال والنسيان.

العدد 1105 - 01/5/2024