ماذا فعلنا لمواجهة المؤامرة؟!

الموضوع لكي يشرح يحتاج إلى مجلدات، وقد كتبت فيه كغيري كثيراً، لكن في كثير من الأحيان يتركز اهتمامي على قضية هامة، لا أستطيع تناول الموضوع دون أن تكون في مقدمة تفكيري، وأرى أنها تغفل إلى حد ما عند تناول الموضوع، وهي الحديث عن موقف أهل البلاد، السوريين، ماذا فعلوا؟ ماذا يفعلون؟ وأقصد بهم هنا أولئك الذين تتعرض بلادهم من البحر المتوسط إلى حدود فارس، لكل هذا الضغط أو الهجوم، الذي يعد حلقة جديدة لسيناريو متجدد يتم إخراجه وإنتاجه.

قولاً واحداً، إن السوريين ضحوا كثيراً في الدفاع عن بلادهم على مر التاريخ، مثلما حطمتهم تلك الهجمات المتكررة، لكن إرادتهم الوطنية، أو إرادة غالبيتهم بقيت صلبة. لكن بعضهم – وقد أشرت إلى هذا في كتاب ((التبعية- إشكالية السيادة المنقوصة والتنمية المعاقة))- لم يكن لهم من الوطنية الحظ الكثير، فمثلوا أدوار أبي رغال، دليل أبرهة إلى الكعبة.

لقد كان ولا يزال في بلادنا أبو رغالات كثر، إما جاهلون عما يخطط لهم ولبلادهم، وإما متواطئون. ولا يصح، أو لايجوز الحديث في الموضوع ونحن نغفل دور كل السلطات التي وجدت في المنطقة خلال القرن العشرين وما بعد، والتي وجهت لها أسئلتي عما فعلته لتلافي ما يخطَّط لبلادها ومنعه، سألتها عن مصير الحريات في بلادها، عن الفساد، عن التنمية، عن الديمقراطية وغيرها من المؤشرات التي تعتبر مانعة لنفاذ المؤمرات، او لانجراف بعضنا في تيارها. هل تم التعاطي مع كل ذلك بحيث لانترك المناخ مناسباً لتحول ذلك إلى مؤامرات يشارك فيها بعضنا ممن لديه اهتزاز في وطنيته، يعززه عدم تلافي ما نجده من عناوين لقصور يبرر الارتكابات عندهم؟

اتهام أبناء الوطن شيء خطير، ولا يصح التشكيك فيمن يشاركوننا المواطنة، لكن الحقيقة التي تبرز في كل مرحلة من مراحل إنفاذ السيناريو الأعظم للمنطقة، أي لشرق المتوسط، يعني سورية، هي أن أغلب الناس ينحازون لوطنهم ويدافعون عنه، لكن بعضاً -قلّ أو كثر- يكون مرتكزاً أو رأس جسر للإرادات الخارجية. وهذا الدور أحد فصول السيناريو الذي يعده الغرب الامبريالي، يضيف إليه ويعد له حسب الظروف، لكن صلبه لا يتغير، وهو فكراً وتخطيطاً وتنفيذاً يستهدف بلادنا.

السيناريوهات لا تحتاج إلى التخطيط فقط، إنما إلى الإعداد لإنتاجها، وتحتاج إلى التمويل، وهنا يتكفل النفط العربي وفوائضه بتغطية النفقات، وكل ذلك يجد من الأهل والجيران والأصدقاء من يمد يد العون للعمل.

يجلب الممثلون، وتعد المواقع، وتحضر المعدات، ويقف المخرجون، عرباً وأجانب متأهبين لكل مرحلة أو جزئية، ويسمى من يشارك من الداخل (معارضة وطنية). وإذا كنت لم أعبر لحظة عن رضاي عن أداء الأنظمة في بلادنا، خاصة في تعاطيها مع مسألة الحريات والمعارضة، وأعدها مقصرة لأن المؤامرات تعد تحت نظرها وتصبح على علم بها ولا تقوم بما يجب لإفشالها، إلا أنني أستكثر كلمة معارضة، كما أستكثر كلمة وطنية، أن يوصف بها هؤلاء، أن يشار بها إلى جماعات لم يعرف تاريخ الشعوب ومعارضتها أحطّ ولا أقل وطنية من أغلبهم.

كنت أسأل دائماً في حواراتي دون دفاع عن السلطة وما استخدمته من عنف، مع أن لدي استدلالات عن أن هذه المعارضات أعدت للعنف وللطائفية ليكتمل دورها الموكل إليها كي يرضى المخرج الأجنبي عن أدائها، ويكافئها المنتج، وسؤالي: إذا كانت هذه المعارضة ترى أن أنظمة بلادها فاسدة، تقمع الحريات، وقد فقدت مبررات وجودها أخلاقياً، فهل كانت هذه المعارضة أكثر أخلاقية وأفعالها تشير إلى غير ذلك؟

وماذا سيكون مصير من يعارضها إذا هي وصلت إلى السلطة بواسطة كل هذا العنف الذي تتوسل إليه بكل همجيات العالم وساقطيه لإمدادها ومساعدتها؟ وكيف ستعامل مجمل المواطنين الذين ينتقدونها؟ هل دليل ديمقراطيتها ورحمتها بالمواطنين الذين تدعي الدفاع عنهم، مشاركتها في قتلهم وتدمير مقدراتهم ومشاركة الأجنبي في أن تكون أداته للاستحواذ على بلادهم؟

السيناريو الذي نتحدث عنه لا يحتاج إلى كثير شرح وبيان، فقد تعبنا، مثقفين ومواطنين، من تحليل عناصره (خطواته) البديلة للشكل الاستعماري القديم الذي لم يعد يناسب العصر، وهي مقولات (خطط): صدام الحضارات، الشرق الأوسط الجديد/الكبير، الفوضى الخلاقة. وهي مقولات سخرنا منها وقلنا عنها إنها تخاريف الغرب لتظهر أنها عناصر المؤامرة التي اشتركنا في مناقشتها، كما يشترك بعضنا في تنفيذها، وكأننا نمكّنها أفكاراً قبل أن تصبح أفعالاً.

إن إنفاذ السيناريو يحتاج إلى إعداد الساحة (الشرق الأوسط) لصدام الحضارات الذي أعلنه برنارد لويس وفصله هنتنجتون، وقد أعطياه أبعاداً عقدية، فقد جعلوا للحضارات أسواراً من العقائد بدلاً من الأراضي والتخوم، وقد شاركت إسرائيل جيداً فيما أعده الغرب، وكان كتاب شمعون بيريز، الثعلب الصهيوني، وعنوانه (الشرق الأوسط الجديد) بصمة واضحة على هذا السيناريو الذي احتاج إلى إعلان بدء المشهد الأخير، إثارة الفوضى الخلاقة، وهي خلاقة فعلاً لمن يحسن إدارتها، وهنا يظهر الغرب وأدواته، ثم نعود إلى قراءة حروب الخليج الثلاث وتفريغ العراق من كل قوة وتفتيته وإلحاقه بالعصبيات القديمة، وتحطيم سورية. وهنا تبدو (داعش) وأمثالها عناصر تقوم بدور الممثل البديل، الذي يظهر الأساسي إلى جانبه طالباً من المسيحيين التوجه إلى الغرب كما يقتضي صدام الحضارات المحددة بالعقائد، كما يطلب الرئيس الفرنسي، ما يظهر فاعلية المقولة الهنتنجتونية.

هذا السيناريو هو النسخة المعاصرة لتلك التي توجه الغرب بها منذ بداية علاقته ببلادنا في العصور الحديثة. كان المخرج بريطانيا أساساً تساعدها فرنسا، ثم أصبح الولايات المتحدة الأمريكية التي تخرج، على طريقتها، النسخة الأخيرة، وقد شاركت في الوصول إليها، أنظمة متعاونة مع الغرب، وأنظمة أخطأت في قيادة بلدانها ولم تحسن قراءة ما يجري، كما لم تجهد نفسها بتلافي الخلل وإصلاح مواقع الخلل التي يتسرب منها السوس إلى جسد الوطن، وهناك قوى إقليمية تسهّل وتقدم الخدمات وتقوم بأدوار.

إن التفكير البسيط الذي يربط الأحداث والأهداف والوسائل والمعطيات بعضها ببعض، خلال القرن المنصرم أو ما يزيد، وصولاً إلى يومنا هذا، وعلى ضوء تطور الوسائل والوسائط، إذ استخدم لكل مرحلة وسيلتها ووسائطها، من الاحتلال المباشر إلى توكيل العمل للتبعيات إلى عصر التقنيات الرقمية، دون استبعاد وتدخل القوة العسكرية مجدداً، لابد أن يشير إلى أن السيناريو (المؤامرة) التي يغطي بها الحكام العرب عوراتهم، هي ذاتها، والأطماع هي ذاتها، تشتد كلما لاح جديد في الأفق، مثل النفط سابقاً، والغاز حالياً، مع ضمان أن أبناء المنطقة على استعداد دائماً للتحول إلى كومبارس وشهداء وضحايا، ومقدمي خدمات لوجستية، وأكثرهم وعياً أكثرهم تعاسة وتهميشاً واستبعاداً ولوماً، وأول من يفعل بهم ذلك سلطاتهم قبل أعداء وطنهم.

لقد كنا جميعاً شركاء أمريكا وأدواتها في أجزاء من هذا السيناريو، ولم يبدأ أي مشهد فيه إلا بدفعنا لتمثيله، من حرب الخليج الأولى مع إيران، إلى الثانية عقب اندفاع حاكم العراق الذي أصابه عمى غرور العظمة إلى احتلال الكويت بدفع أمريكي، إلى اصطفاف العرب جميعاً مع الغرب لتدمير العراق وإخراجه من الكويت، في مشهدية غاية في السقوط، مع ما فيها من برغماتية سياسية أجادها بعض الأطراف متذرعاً بنبل الهدف.

وترك العراق مكشوفاً، لا جيش ولا أمن ولا سلطة ولا مؤسسات أو دوائر بحيث اندفع الناس إلى كتلهم الأقوامية العشائرية المذهبية الطائفية، ما ضمن إنتاج وإخراج المشاهد الأخيرة، مع إلحاق سورية قدر الإمكان بصورة هذا المشهد، أو إلحاق أجزاء من الأرض والبشر السوريين ممن وقعوا في المصيدة بغبائهم أو بضعفهم، او بسوء نواياهم وأطماعهم، أو مقادين أذلاء من قبل الغرب الذي يوهمهم بما أوهم به العراقيين الذين استجدوه لتخليصهم من الاستبداد، فخلصهم من وطن حر كريم ينتسبون إليه.

ما ستتكشف عنه جزئيات السيناريو وأحداثه لم يصل إلى النهاية، وفي العادة لا بد من تصفية في نهاية البرامج والمخططات، فعلى ضوء ما سيظهر مما لم يظهر كله ستكون لعنة التاريخ كبيرة، للحكام، للمعارضات، للمثقفين، لرجال الدين، للممولين أصحاب المليارات التي أنفقت وتنفق لمساعدة الغرب صاحب السيناريو في قتل أكبر عدد ممكن، هؤلاء يحملون مسؤولية الدماء، ولا أحد يعلم ماذا يريدون. لا غموض في ما تريده أمريكا ومَنْ تحت إمرتها من الغربيين، ولا غموض فيما تريده إسرائيل، ولا غموض فيما نريده تركيا أو إيران أو روسيا، إنها قوى تبحث عن مواقع تمارس إمبرياليتها عليها بما تجده من فوائض القوة التي تساعدها ظروفها على امتلاكها أو استغلالها.

لكن ليقل لي العالمون، ماذا تريد قطر؟ هل تريد أن تحتل موقع الصين منافستها في عدد السكان والمكانة الجيولوليتيكية؟! وماذا تريد السعودية؟ هل تريد كل من الدولتين أكثر من أن تقولا للعالم: انتبهوا لدينا فائض من المال ونحن نستخدمه في أن يصنع لنا مكانة؟!

شعوب العالم تصنع مكانتها بتوظيف العلوم لإنشاء حضارة وحداثة، ونحن نوظف الأموال في قتل البشر الأشقاء للفت الأنظار إلينا. كثيرون من ستصيبهم لعنة التاريخ، من قادة وحكام وأتباع مأمورين، وستكون اللعنة أشد كلما بدت معالم المشهد الأخير من السناريو، فيظهر العمالقة من الأقزام، وتلمع أضواء المشاهير، لكن من رتبة أبي رغال، ونماذج العفن التاريخي. مثلما سيبدو أبطال المشهد خاصة ممن حذروا ونبهوا بعد أن استشرفوا وفهموا أن خصوبة الوحش لا تزال قوية، وأن الموجات تتلاشى لكن لا تنقطع، وأن من ظنوا أنهم هدموا الحالة الغربية كانوا واهمين لأنها لم تسنفد أطماعها، ولا يزال في أرضنا ما يُسيل اللعاب ويقتضي اليقظة من شعوب المنطقة.

العدد 1105 - 01/5/2024