الموارد المائية والزراعات المروية

يمكن تلخيص مشكلة المياه في سورية بعاملين، أولهما عامل الموقع الجغرافي، وثانيهما العامل البشري نتيجة فعل الإنسان. تتميّز أمطارنا، نتيجة الموقع الجغرافي، وبالتالي مواردنا المائية السطحية والجوفية التي تتشكل في أراضينا بالتباين الشديد بين سنة مائية وأخرى ومن فصل إلى آخر ضمن السنة المائية الواحدة. وتبلغ نسبة تبخر الأمطار التي تهطل في سنة مائية وسطية حوالي 79% ليتوزّع الباقي إلى 9% كمياه سطحية و12% كمياه جوفية. أما العامل البشري فيكمن في أن الطموحات كانت دائماً أكبر من الإمكانات، فكانت التنمية الزراعية السريعة بشكل غير منسجم مع الواقع المائي، خصوصاً في السنوات الجافة المتعاقبة، وعدم احترام أولويّة استخدام المياه في الشرب والاستخدامات المنزلية أولاً، ثم في الصناعة بما في ذلك السياحة، ثم في الزراعة المروية، يُضاف إلى ذلك تلوّث المياه السطحية، وخصوصاً المخزَّن منها في بحيرات السدود، كما لا نسهو عن أكبر الكبائر المتمثلة في نموّ سكاني كبير يقابله زيادة الطلب على المياه والغذاء. ومع ذلك، يجب الاستفادة من موقع سورية الجغرافي وتوسّطه بين خمس دول للحصول على حصة منصفة ومعقولة من المياه الدولية المشتركة معها، ولا سيما مع تركيا، نظراً لأهميتها المصيرية بالنسبة إلى أي تطور اقتصادي واجتماعي في سورية حاضراً ومستقبلاً.

 

في عام 1985 عُقد المؤتمر النوعي الأول لاستصلاح الأراضي (لم يتبعه مؤتمر ثانٍ)، وكان أن طرحت إدارة الشركة العامة للدراسات المائية فيه فكرة مشروع ما كان يسمى آنذاك (خطة عموم سورية)، وبعد انعقاد مؤتمر ريو دي جانيرو عام 1992 ثم مؤتمر ريو+10 في جوهانسبرغ عام 2002 أصبح اسم هذا المشروع (الإدارة المتكاملة للموارد المائية (IWRM)) الذي يهدف في المحصّلة إلى تنظيم (فعل الإنسان) عن طريق دراسة مجمل المشكلات المائية وانعكاساتها الاقتصادية وإيجاد الحلول الناجعة لها. وبالاستناد إلى الخبرات المتراكمة في هذا المجال وضعت وزارة الري (وزارة الموارد المائية) دفتر الشروط الفنية اللازمة لتنفيذ هذا المشروع، ثم حدّثته لآخر مرة عام ،2003 وذلك بالتنسيق مع جميع الوزارات الأخرى المعنية باستخدامات المياه وهيئة تخطيط الدولة والشركة العامة للدراسات المائية، إلا أنه لم يُقدَّر لهذا المشروع حتى الآن أن يحظى بالاهتمام الذي يستحقه، ولربما أصبح الآن أكثر إلحاحاً بعد التخريب الذي تعرضت له معظم المنشآت المائية خلال الأزمة الراهنة، وتوقّف تنفيذ بعض المشاريع المائية الاستراتيجية، وسرقة الآليات الثقيلة التابعة لشركات الإنشاءات العامة. فكلما ازدادت الفوضى، كلما ازدادت الحاجة، بعد نهاية الأزمة، إلى المزيد من النظام والتنظيم وسيادة القانون. ومع ذلك لايجوز تعليق اقتسام مياه نهري الفرات ودجلة بشكل نهائي ومنصف ومعقول على تنفيذ مشروع الإدارة المتكاملة للموارد المائية، رغم الترابط العضوي بينهما. ومن المفروض أن يبقى زمام المبادرة لاقتسام مياه هذين النهرين دائماً وأبداً بيد سورية، وأن يكون ذلك على رأس قائمة أولويات أية حكومة قادمة وعدم انتظار مبادرات الآخرين في هذا المجال لأنها لن تأتي، نظراً لعدم حاجتهم الماسّة لها. وحتى يحصل ذلك سنبقى في إطار المعلومات القديمة.

الموارد المائية: تتألف الموارد المائية في سورية من مياه وطنية داخلية تنبع وتجري وتصب ضمن حدودنا السياسية، ومن مياه دولية مشتركة مع دول الجوار.

أسفرت دراسة الأحواض المائية التي نُفّذت في بداية سبعينيات وحتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي بمساعدة الجانب السوفياتي آنذاك عن أن وسطي إجمالي المياه السطحية التي تتشكل فوق الأراضي السورية هو 4296 مليون م3/السنة، ووسطي إجمالي المياه الجوفية هو 5633 مليون م3/السنة، أي ما مجموعه 9929 مليون م3/السنة، وهي موارد ضئيلة بالفعل بالمقارنة مع الأراضي القابلة للري. وبعد المعالجة الإحصائية للهطولات المطرية والتبخر تبين أن إجمالي المياه السطحية والجوفية في سنة مائية رطبة (باحتمال 25%) هو 12511 مليون م3/السنة وفي سنة مائية جافة (باحتمال 75%) 6662 مليون م3/ السنة وفي سنة مائية جافة جداً (باحتمال 95%) فقط 3922 مليون م3/السنة.

فيما يتعلق بالمياه الدولية المشتركة، سنركّز الاهتمام هنا على نهري الفرات ودجلة. ففي تموز من عام 1987 أبرمت سورية بروتوكولاً، (سجّلته في عام 1994 لدى منظمة الأمم المتحدة)، تعهّد بموجبه الجانب التركي بتوفير معدل سنوي يزيد عن 500 م3/ الثانية عند الحدود السورية-التركية (جرابلس) خلال فترة ملء خزان سد أتاتورك وحتى التوزيع النهائي لمياه نهر الفرات، وفي الحالات التي يكون فيها الجريان الشهري تحت مستوى الـ 500 م3/ثا، فإن الجانب التركي يوافق على أن يعوّض الفرق أثناء الشهر التالي . وفي نيسان 1989 وقّعت سورية في بغداد اتفاقاً مع العراق أصبح نافذاً في 16 نيسان 1990 بعد تبادل وثائق إبرامه في جامعة الدول العربية في تونس آنذاك، يقضي بأن تكون حصة العراق من مياه الفرات الممررة له على الحدود السورية-العراقية بنسبة سنوية ثابتة (سنة مائية) مقدارها 58% من المياه التي تمررها تركيا لسورية على الحدود السورية-التركية، وأن تكون حصة سورية الباقي وقدرها 42% من تلك المياه. وبما أن وسطي الواردات المائية لنهر الفرات في بيرجيك القريبة من الحدود السورية هو 31.4 مليار م3/السنة، فإن حصة سورية المؤقتة من هذه المياه وبموجب هذين الاتفاقيْن المؤقتيْن هي 6626 مليون م3/السنة، وحصة العراق 9106 مليون م3/السنة، وحصة تركيا 15700 مليون م3/السنة. ونظراً لأن خزان سد أتاتورك قد امتلأ منذ سنوات عديدة، فلم يعد هناك أي مانع قانوني من إعادة النظر باقتسام مياه نهر الفرات، حيث من المفروغ منه أن تكون الحصة النهائية لكل من سورية والعراق أكبر من حصتيهما المؤقتة الراهنة، نظراً لانتفاء الظرف الاستثنائي (ملء خزان سد أتاتورك) الذي اقتضاهما. ولقد اتفق الجانبان السوري والعراقي في عام 2002 على أن قسمة مياه نهر الفرات بنسبة الثلث لتركيا والثلثين لسورية والعراق مع المحافظة على اتفاق عام 1989 بينهما، (أي اقتسام هذين الثلثين بنسبة 58% للعراق و42% لسورية) تعدّ القسمةَ النهائية الأكثر إنصافاً ومعقوليّة، وذلك بالاستناد آنذاك إلى مشروع قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية، الذي أصبح الآن جزءاً من قانون المياه الدولي المعتمَد بعد أن صادقت عليه مؤخراً أكثر من خمس وثلاثين دولة لدى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة. كما اتفقا أيضاً على ضرورة إقناع الجانب التركي بهذه القسمة النهائية من خلال تنشيط عمل اللجنة الفنية المشتركة (JTC) التركية-السورية-العراقية. وفي حال تحقيق ذلك، فإن ذلك يعني أن حصة تركيا من مياه نهر الفرات ستصبح 10380 مليون م3/السنة وحصة سورية 8830 مليون م3/السنة وحصة العراق 12190 مليون م3/السنة، أي أن حصة سورية ستزداد حوالي 2200 مليون م3/السنة. وهنا لابد من التأكيد على ضرورة دراسة الجدوى الفنية-الاقتصادية لنقل هذه الزيادة (وحصتنا من فائض حصة تركيا الذي لاتستخدمه مرحلياً) إلى سهول سورية الداخلية وملء بحيرات بعض السدود القائمة فيها، والتي لم يعد لها مصدر مائي ذاتي بسبب الاستنزاف الحاصل، إذ لا جدوى من الاستمرار في مقارعة الأراضي الجبسية والكارستية والمتملحة في حوض الفرات، والتي يصل احتياجها المائي إلى 23000 م3/السنة، بينما لا تفتقر سورية إلى الأراضي الخصبة في سهولها الداخلية التي يمكن أن يصل استهلاكها المائي إلى فقط 5500 م3/السنة بسبب جودة الأراضي والمناخ ووجود السكان العريقين بالزراعة. فمن الصعب فهم الحكمة الكامنة وراء الإصرار على تغيير حياة مربي الأغنام في حوض الفرات إلى مزارعين، علماً أن تربية أغنام العواس هناك ذات مردود اقتصادي يضاهي عائدات النفط مستقبلاً. وقد يتوجس البعض من فكرة نقل المياه من حوض مائي إلى حوض مائي آخر، إلا أن السابقات المماثلة في العالم تدعم فكرة نقل المياه إلى أماكن الحاجة إليها وذات العائد الاقتصادي الأفضل، بدلاً من نقل السكان إلى أماكن توافر المياه. كما أن المادة 38 من دستور محكمة العدل الدولية تعدّ الاتفاقيات الثنائية أو الإقليمية أساسَ القانون الدولي. فإذا ما تم الاتفاق ثنائياً أو ثلاثياً على اقتسام مياه نهر الفرات، فلن يضير تركيا أو العراق أين تستخدم سورية حصتها من هذه المياه طالما اقتصر ذلك على الحصة المتفق عليها. ويمكن تطبيق هذه المبادئ على مياه نهر دجلة أيضاً، هذا إذا انطلقنا من مسلَّمةٍ مفادها أن مياه نهري دجلة والفرات ليست ملكاً للمحافظات الشمالية والشرقية فقط وإنما هي ملك لكامل الوطن. وسورية اعتباراً من إدلب وباتجاه الجنوب عطشى، كما أن البنية التحتية اللازمة لنقل المياه إلى الداخل موجودة جزئياً، وهي محطة ضخ البابيري وقناة جرّ المياه الواصلة إلى مشارف مدينة حلب. إذ بعد استبعاد أجزاء لا بأس بها من استصلاح الأراضي في سهول شمالي حلب وغيرها أصبحت محطة الضخ وقناة الجر لا تعملان إلا بأقل من 50% من استطاعتهما التصميمية، ويمكن استخدامهما لهدف نقل المياه إلى الداخل وفق دراسة فنية-اقتصادية.

في نيسان 2002 وقّعت سورية مع العراق على اتفاقية لإنشاء محطة ضخ على نهر دجلة ذات تصريف مناسب لري مساحة مقدارها 150 ألف هكتار صافي، على أن تكون كمية المياه المسحوبة من النهر 1.25 مليار م3/السنة. يؤكد البروتوكول المنبثق عن معاهدة لوزان لعام 1923 بين تركيا والحلفاء والموقّع في حلب عام 1930 بين فرنسا (باسم سورية) وتركيا على أن حل جميع المسائل المتعلقة بمياه نهر دجلة يجب أن يكون على أساس مبدأ المساواة في السيادة بينهما. ومن المعروف أن المساواة في السيادة لا يعني بالضرورة المساواة في الحصص المائية. وفي الواقع، فإننا سنحصل عملياً على حصتنا النهائية من مياه نهر دجلة من العراق وعلى حساب جريان النهر الذي يدخل أراضيه. فإذا طبّقنا نفس الأسس آنفة الذكر والتي يراها العراق وسورية منصفة ومعقولة بخصوص نهر الفرات على مياه نهر دجلة، أي الثلث لتركيا والثلثين لسورية والعراق مع المحافظة على نسبة 58% للعراق و42% لسورية من هذين الثلثين، فإن حصة سورية من المياه المتشكلة في حوض نهر دجلة حتى الحدود السورية-التركية، والبالغة وسطياً 5,18 مليار م3/السنة ستكون وفق ذلك 5.18 مليار م3/السنة، حيث يجب دراسة الجدوى الفنية الاقتصادية لتحويل جزء كبير منها إلى حوض الخابور ومنه إلى سد الطبقة ثم إلى سهول سورية الداخلية. من الجدير بالذكر أن وزارة الري شكلت لجنتين لتقدير حصة سورية النهائية من مياه نهر دجلة، فتوصلت أولاهما إلى هذا الرقم المذكور وفق الأسس المذكورة، بينما توصلت اللجنة الثانية التي شكلها آنذاك السيد وزير الري رضوان مرتيني برئاسة المهندس زهير فرح إلى حصة مقدارها 4.8 مليار م3/ السنة، وذلك بالاستناد إلى عوامل اقتسام المياه الدولية الواردة في المادة السادسة من قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية . ومن الواضح تقارب هذين الرقمين. وقد عُرضت نتيجة عمل اللجنة الثانية في حينه على اللجنة العليا للمياه، فوافقت عليها وطلبت إلى المفاوض المائي الاستئناس بها عند اقتسام مياه نهر دجلة مع العراق أو ثلاثياً مع تركيا أيضاً. قد يقول قائل بأن إسهام سورية بمياه نهر دجلة ضئيل، فكيف لها أن تطالب بحصة مقدارها حوالي خمسة مليارات م3/السنة، والجواب على ذلك هو أن إسهام العراق بمياه نهر الفرات شبه معدوم، ومع ذلك فقد أيّدت سورية دائماً أن يحصل العراق على حصة منصفة ومعقولة من مياه هذا النهر قد تصل إلى أكثر من 12 مليار م3/السنة، كما هو مذكور أعلاه.

الزراعات المروية وعلاقتها بالموارد المائية (الجوفية): شهدت الزراعات المروية خلال العقود الثلاثة الأخيرة تطوراً كبيرأ، إلا أن هذا التطور كان دائماً على حساب المياه الجوفية، فانخفضت مناسيبها في معظم الأحواض المائية مما أدى إلى جفاف العديد من الينابيع الرئيسةلأغراض الشرب والتي كانت أيضاً تغذي الأنهار والوديان الموسمية التي أقيمت عليها السدود، فانخفضت حجوم تخزين هذه السدود وتقلصت الزراعات في شبكات الري الحكومية المرتبطة بها، كما زادت كلفة ضخ المياه من الآبار وتردّت نوعيتها. لقد تغيّرت الهيدروجيولوجيا في سورية بشكل كامل بسبب حفر الآبار العشوائي واستنزاف المياه الجوفية بشكل جائر وزيادة المساحات المروية منها باضطراد سنوياً، إلى أن فرضت الطبيعة الحلول القسرية وأخرجت مساحات مستصلحة من الاستثمار. فبعد أن كانت مناسيب المياه الجوفية في ثلاثينيات القرن الماضي أعلى من مناسيب معظم أسرّة الأنهار والوديان وكانت هي التي تغذيها بالمياه، أصبحت مناسيبها الآن أخفض منها بكثير، فأصبحت الوديان هي التي تغذي المياه الجوفية عندما تجري فيها مياه الأمطار. عُرضت هذه الأفكار في أحد اجتماعات اللجنة العليا للمياه في 2002 فشُكلت إثر ذلك لجنة من وزارتي الري والزراعة والمكتب المركزي للإحصاء لحصر عدد الآبار المرخصة وغير المرخصة والمساحات المروية منها (لم يتبعه إحصاء آخر حتى الآن). فأسفرت نتيجة عمل هذه اللجنة عن أن استهلاك المساحات المروية بمياه الآبار المرخصة (في عام 2001) بلغ حوالي 6.5 مليار م3/السنة، وبمياه الآبار غير المرخصة حوالي 2.6 مليارم3/السنة، مما يعني أن المساحات المروية بمياه الآبار المرخصة تستنزف المياه الجوفية في جميع السنوات الوسطية والجافة والجافة جداً التي تبلغ واردات المياه الجوفية فيها 5.6 مليار م3/السنة و 3.7م.م3/السنة و 2.22 م.م3/السنة على التوالي. يضاف إليه الاستنزاف الحاصل من ري المساحات بمياه الآبار غير المرخصة، بحيث أصبح إجمالي الاستنزاف 3.5 مليار م3 في سنة متوسطة و5.4 مليار م3 في سنة جافة و6.88 مليارم3 في سنة جافة جداً. وأن هذا الاستنزاف قد تراكم في تلك السنوات خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وأن الواردات المائية الجوفية في السنوات الرطبة القليلة خلال الفترة المذكورة لم تكن قادرة على تقليص هذا العجز المائي الكبير.

هل آن الأوان لنقل وزارة الموارد المائية من قطاع الخدمات إلى القطاع الاقتصادي؟؟

على أية حال، لن يستقيم الوضع المائي في سورية إلا بزيادة الموارد المائية عن طريق اقتسام مياه نهري دجلة والفرات بشكل نهائي، ودراسة الجدوى الفنية-الاقتصادية لتحويل جزء كبير من حصتنا منها إلى السهول الداخلية، وعن طريق ترشيد استهلاك المياه وفق نتائج مشروع الإدارة المتكاملة للموارد المائية، وخصوصاً في قطاع الزراعة المروية التي تستهلك حوالي 85% من إجمالي الموارد الحالية. فلا بد من إعادة النظر، من بين أمور عديدة أخرى، بالخطة الزراعية وبالمساحات المروية بالمياه الجوفية وبالدورات الزراعية وتراكيبها المحصولية، وزيادة مردود الأراضي التي تُزرع بالقمح إلى 5 طن/هكتار، كما لابد من إغلاق الآبار غير المرخصة وفق أحكام التشريع المائي (القانون رقم 31 لعام 2005)، ومنع حفر آبار جديدة إلا بموافقة وزارة الموارد المائية حصراً، ووضع سلم تصاعدي لرسوم الري وفق كمية المياه المستجرة فعلاً، وتطبيق طرق الري الحديث في الأراضي المروية بمياه الآبار المرخصة، وحيثما كان ذلك فنياً واقتصادياً ممكناً، حتى تتعافى مناسيب المياه الجوفية إلى مستويات مقبولة تحددها وزارة الموارد المائية. وهذا يعني ضرورة خلق فرص عمل جديدة في قطاعات الاقتصاد الوطني الأخرى بعيداً عن الزراعة المروية، إذ لا يمكن الاستمرار بالسياسة المائية-الزراعية الراهنة، ولا يمكن معاندة الطبيعة أكثر من ذلك. وعلى العموم لا يجوز أن يزيد إجمالي المساحات المروية في سورية عمّا يمكن ريّه بالمياه المتاحة للري باحتمال 75%، حتى يبقى في الأحواض المائية بعضٌ من احتياطي استراتيجي من المياه. ويدخل في هذا المجال أيضاً ضرورة تقليص المساحات المزروعة بمحاصيل شرهة للمياه كالقطن والشوندر السكري والخضار الصيفية. إذ يفضل عدم إنتاج القطن، مثلاً، إلا بما يغطي الاستهلاك المحلي وما يمكن تصديره منه مصنَّعاً. فذلك يوفر المياه ويجلب المزيد من القطع الأجنبي ويشجع صناعات الغزل والنسيج والألبسة القطنية، وسورية عريقة في هذه المجالات القابلة للتطوير بسرعة. والشوندر السكري محصول شره أيضاً للمياه ويكلفنا استخراج السكر الأبيض منه أضعاف سعره في الأسواق العالمية، بينما يمكن تشغيل معامل السكر القائمة على تنقية السكر الأحمر المستورد جزئياً. كما لابد، بعد انتهاء الأزمة الحالية، من العودة إلى تنفيذ مشروع الري التكميلي بحصتنا المؤقتة من مياه نهر دجلة.

هذا غيض من فيض، إلا أن تنفيذ مشروع الإدارة المتكاملة للموارد المائية سيساعدنا في حل مجمل المشكلات آنفة الذكر وغيرها كثير، فهو يشمل، باختصار شديد، تحديث حصر الموارد المائية السطحية والجوفية كماً ونوعاً، وطريقة توزيعها على المستفيدين منها في مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني، ودراسة التربة والسكان والبيئة، ودراسة المشاريع المائية القائمة وكفاءة استخدام المياه فيها، واقتراح سبل تطويرها واستنباط مشاريع مائية جديدة في الشرب أولاً والسياحة والصناعة والري ثانياً، من خلال دراسة ثلاثة سيناريوهات: يُفترض في السيناريو الأول أن تكون للري الأولوية الأولى، وللسياحة والصناعة الأولوية الثانية، وأن تكون الأولوية الأولى في السيناريو الثاني للسياحة والأولوية الثانية للصناعة والري، وفي الثالث تطوير الصناعة أولاً وللسياحة والري الأولوية الثانية. وتحديد أكلاف هذه المشاريع الممكنة في كل سيناريو، وكذلك عائديتها الاقتصادية، ثم إجراء التقاطع فيما بينها عن طريق تطبيق برنامج التحليل متعدد الأغراض Multi- Purpose Analysis) ) من أجل تحديد الاستثمار الأمثل للمياه المتاحة وتحقيق أفضل عائد اقتصادي منها ووضع المشاريع المائية الممكنة وفق ذلك على شكل سلم أفضليات تستفيد منه جميع الوزارات، على أن يكون قابلاً للتعديل وفق المستجدات كل خمس سنوات، مثلاً، وأن يمكّن الحكومة من رصد الأموال اللازمة لدراسة هذه المشاريع دراسة تفصيلية ومن ثم تنفيذها على خطط خمسية متعاقبة، على أن يستند فيه عمل اليوم إلى ما أُنجز في البارحة، وأن يكون أساساً لما سينفذ غداً، حتى سنة الهدف. لا شك في أننا بحاجة إلى مساعدة مشاور عالمي لتنفيذ هذا المشروع الكبير فنياً ومالياً، وقد تكون روسيا الاتحادية من الدول ذات الباع الطويل في إنجاز مثل هذه المشاريع، ناهيك عن أنها هي الجهة التي ساعدتنا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في دراسة الأحواض المائية، ولا تزال تحتفظ بنتائجها التي تعدّ إلى جانب نتائج العديد من الدراسات الأخرى (مع اليابانيين والهولنديين والألمان وشركة الدراسات المائية) المتوافرة لدى وزارة الموارد المائية الأساسَ الهام لإنجاز هذا المشروع.

العدد 1105 - 01/5/2024