حلب كطائر الفينيق

حلب لؤلؤة وضاءة في جبين الوطن العربي، وهي أقدم مدينة مأهولة في العالم مع دمشق وأريحا بفلسطين، ويمتد عمرها لآلاف السنين، فمنطقة (المغاير) شاهد على سكن الإنسان في المدينة منذ ما قبل العصر الحجري، والتاريخ المكتوب لمدينة حلب يعود إلى أكثر من سبعة آلاف عام.

وقد ورد ذكر حلب في الرقم المكتشفة في ماري (تل الحريري) وفي إيبلا (تل مرديخ)، وورد ذكر (كلاسو) في رقم (ماري) وهي الكلاسة حالياً وذلك منذ الألف الثالث قبل الميلاد. وكانت حلب منذ بدايات الألف الثالث قبل الميلاد مدينة مزدهرة ومركزاً اقتصادياً هاماً، وقد استولى عليها (ريموش) الأكادي وخربها وأسر ملكها في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وكان ذلك أول تخريب حربي لمدينة حلب.

نهضت حلب من تحت الأنقاض وعادت مملكة مزدهرة في أوائل الألف الثاني قبل الميلاد، وأصبحت عاصمة مملكة (يمحاض) العمورية، وكانت على علاقة وثيقة مع الممالك العمورية الأخرى في حوض الفرات (ماري – كريمش (جرابلس) – بابل ـ أشور). وتبين لنا الرقـُم أشكالاً من العلاقات التجارية المبكرة والاتفاقيات الاقتصادية بين مملكة (يمحاض) الحلبية وممالك العموريين الأخرى وبخاصة مملكة ماري، وكان ميناء (إيمار) مسكنة على الفرات هو الميناء النهري الهام لمدينة حلب في تجارتها الممتدة عبر الفرات وصولاً إلى الخليج عبر المدن العمورية.

وجاء التدمير الثاني لمدينة حلب على يد الحثيين القادمين من الشمال، الذين أزالوا مملكة (يمحاض) من الوجود في الألف الثاني قبل الميلاد ، ولكن المدينة عادت إلى الحياة من جديد وأصبحت مركزاً حثياً دينياً (حدد – عشتار) واقتصادياً هاماً ولا تزال آثار الفترة الحثية في قلعة حلب من المعبد الذي يعود إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد.

ومع بدايات الألف الثاني قبل الميلاد عام 1473 احتلها المصريون ودخلها (تحوتمس الثالث) فرعون مصر. ثم عاد الحثيون واحتلوها ثم أصبحت جزءاً من الممالك الأرامية التي عمت بلاد الشام وحوض الفرات مع بدايات الألف الأول قبل الميلاد. ومن جديد جرى تدمير حلب عام 853 ق.م على يد (سلمنصر) الأشوري ثم دخلها الكلدانيون عام 612 ق.م، ثم الفرس حتى الاحتلال الإغريقي عام 323 ق.م على يد (الإسكندر) المقدوني، وأطلق عليها الإغريق اسم (بيروا) على اسم عاصمتهم.

وأسس (سلوقس نيكاتور) الإمبراطورية السلوقية، فالرومانية فالبيزنطية حتى الفتح العربي الإسلامي عام 636 م حين دخلها أبو عبيدة بن الجراح من باب إنطاكية، ورمى المقاتلون تروسهم وصلّوا في المكان، وبعد ذلك بني جامع صغير سمي (جامع التروس) ما زال قائماً إلى اليوم، ويعتبر أول أثر إسلامي حلبي في عهد الخلفاء الراشدين، ثم تتالت المعالم الأثرية الإسلامية في جميع الفترات الإسلامية، لذلك وقع اختيار حلب في عام 2006 (عاصمة الثقافة الإسلامية). وخلال العصور الإسلامية المتتابعة كانت حلب واحدة من المدن الكبرى الأموية والعباسية، وكانت مركزاً دفاعياً متقدماً على الحدود مع الدولة البيزنطية ومكاناً لتجمع الجيوش الإسلامية المنطلقة لمحاربة بيزنطة، لهذا لم يكن غريباً أن يتخذها الخلفاء والأمراء الأمويون مقراً لهم مثل سليمان بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز. وأن يتخذها العباسيون منطلقاً لحروبهم ضد البيزنطيين (هارون الرشيد ـ المأمون ـ المعتصم). بلغت حلب ذروة عظمتها السياسية والفكرية أيام سيف الدولة الحمداني وبلاطه الباذخ الذي اجتمع فيه من الأدباء والشعراء ما لم يجتمع في بلاط أي خليفة في بغداد أو قرطبة أو القاهرة.

 تعرضت حلب للتدمير خلال حروب سيف الدولة مع البيزنطيين حينما تمكن (نفقور فوكاس) أن يحتلها ويخربها تماماً عام 926 م ويقتل ويهجّر أكثر سكانها، ويستبيحها لمدة ثمانية أيام. وكعادتها تقوم حلب العملاقة من تحت الأنقاض وتستأنف دورة الحياة لتتألق من جديد أيام  الأيوبيين عمرانياً واقتصادياً، وتبلغ ذروة أناقتها المعمارية على يد الظاهر غازي بن صلاح الدين الذي ترك فيها بصمات معمارية متعددة، من أهمها إعادة ترميم القلعة وأسوارها وأبراجها وتجديد أبواب المدينة وبناء عدد من المدارس والمساجد الباقية إلى اليوم، ويتميز عهد الظاهر غازي بالتبادل التجاري مع أوربا رغم الحروب الصليبية وقد عقدت عام 1207 م أول اتفاقية تجارية مع دولة البندقية، وهي أول اتفاقية بين أوربا والشرق الأوسط.

ويأتي التدمير الهائل على يد هولاكو المغولي عام 1260 م، ثم الدمار المغولي الثاني على يد تيمور لنك وذلك عام 1410 م.

وإلى جانب التخريب الناجم عن الغزوات والحروب، تعرضت حلب إلى عدد كبير من الزلازل المدمرة عبر تاريخها الطويل، ومن أشد هذه الزلازل ما وقع في أعوام: 92 ق.م – 571 م – 1170 م، ثم زلزال القرن قبل الماضي عام 1822 الذي دمر أكثر من نصف مباني المدينة. يضاف إلى ذلك الطواعين التي كانت تجتاح حلب، ومن أشدها فتكاً طاعون عام 1349 م الذي اجتاح أكثر دول العالم . ويندر أن تجد مدينة تعرضت لكل تلك الموجات المدمرة من حروب وزلازل وأوبئة واستمرت حية قوية متفتحة، بينما نجد العديد من المدن المماثلة قد طواها النسيان بعد تدميرها مثل: بابل ونينوى وماري وإيبلا وأشور.. وغيرها.

وانطلاقاً من ذلك فقد احتفل مجلس مدينة حلب عام 2000 م بمرور خمسة آلاف عام على وجود مدينة حلب كأقدم مدينة مأهولة في العالم، وسجلتها منظمة اليونيسكو عام 1986 م في قائمة المعالم الأثرية العالمية التي يجب الحفاظ عليها، نظراً لوجود أكثر من 150 أثراً إنسانياً فيها تمثل مختلف الحضارات الإنسانية.

حلب هذه الأيام تعاني من هجوم عصابات (مغول وتتار هذا العصر) الذين استباحوا ودمروا الكثير من مناطقها وخاصة التاريخية منها، وكما استطاعت حلب أن تنهض دائماً من كبواتها وتنتصر على المصاعب والمحن، ستعود حلب من جديد بهمة أبنائها المحبين الغيارى لتواصل مسيرة العمل والبناء والعطاء، وتستمر بالتألق والبهاء كطائر الفينيق الخالد أبداً لتبقى أقدم مدينة مأهولة في العالم.

العدد 1107 - 22/5/2024