الكلور.. سمّ في الاستنشاق والشرب والاستحمام

ماء جافيل يطاردنا في كل مكان. في مياه الشرب، في مواد التنظيف، في المنزل، في المعامل، وفي المسابح.

وماء جافيل، اسم يُطلق على المركّب الكيماوي (هيبوكلوريت الصوديوم) المؤلف من الكلور والصوديوم، ومصدر اللقب قرية جافيل الواقعة غرب باريس، والتي بني فيها أول معمل لإنتاجه في عام 1777 على يد العالم الفرنسي كلود لويس برتوليه. إلا أن استعماله ظل محصوراً ببعض المنتجات الكيماوية.

واستعمل الكلور في معالجة مياه الشرب، فكان من أهم الإنجازات العلمية التي تحققت في القرن العشرين. وكان سكان مدينة نيوجرسي الأمريكية، أول من حصل على شرف الاستفادة من هذا الإجراء في عام 1908 ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا التطبيق ساري المفعول في الدول الصناعية، ليصبح بعد ذلك عالمياً.

لا شك في أن كلورة الماء(أي إضافة ماء جافيل إلى ماء الشرب)، سمحت بالتخلّص من أمراض مرعبة كانت متفشية آنذاك، مثل التيفوئيد، الكوليرا، والدوسينتاريا وغيرها، خصوصاً في البلدان النامية. لكن تبيّن لاحقاً، أن هناك جانباً أسود للعملية نظراً إلى كثرة الأمراض التي يمكن أن تسبّبها. وكي نفهم خطورة الكلورة نستكشف الحقائق الآتية:

1- تؤدي إضافة ماء جافيل إلى مياه الشرب، إلى تفاعلات مع المركبات العضوية وغير العضوية، فتتشكل معها منتجات ضارة وجدت دراسات أنها تزيد من خطر الإصابة بالسرطان، خصوصاً سرطان القولون والمثانة، ووفق تقرير للمجلس الأمريكي لجودة البيئة، فإن خطر إصابة الأشخاص الذين يستهلكون الماء المكلور بالسرطان، هو أعلى مقارنة بأولئك الذين يشربون الماء الذي لا يحتوي على الكلور.

2- أثبتت البحوث أن الجسم يمتصّ الكلور أثناء الاستحمام بالماء المكلور، وأن الكلور الآتي من طريق الاستحمام، أشدّ ضرراً على صاحبه من الكلور الآتي من طريق الشرب، وعزا العلماء ذلك إلى أنه عندما نشرب الماء، فإن الكلور يتبعثر في أجهزة عدة من الجسم هي جهاز الهضم، ومن ثم جهاز الإطراح، وما تبقى يذهب إلى الدورة الدموية. أما عند الاستحمام، فإن الكلور يتغلغل عبر مسامات الجلد ليعبر بسهولة إلى أعماق الجسم، خصوصاً إلى المثانة، من هنا اتهام بعض العلماء الكلور بأنه وراء زيادة الإصابة بسرطان المثانة. ويجدر التنويه هنا، بأن كمية الكلور التي تدخل إلى الجسم أثناء استحمام مدته 10 دقائق، تعادل الكمية الآتية من شرب 8 أكواب كبيرة من الماء نفسه.

3- لا يجب غضّ الطرف عن مشكلة أخرى خطيرة، وهي استنشاق الكلور أثناء الاستحمام، فالحمّام يكون عادة صغيراً فيتطاير رذاذ الماء الساخن حاملاً بين أحضانه الكلور، الذي يتسلل بسهولة إلى العينين والمجاري التنفسية، ما يقود إلى بعض المشكلات الصحية، فإذا كان التعرّض للكلور قصير الأمد، فإن الشخص يعاني من إدماع العينين، والسعال، وخروج البلغم، وربما إلى النزف من الأنف، وإلى آلام في الصدر. أما إذا كان التعرّض له طويلاً، فإنه يطلق العنان لنشوء التهاب في القصبات والنسيج الرئوي، فيعاني الشخص من ضيق في التنفّس.

وحول خطورة استنشاق الكلور، حذّرت دراسات طبية أمريكية وأوروبية وأسترالية من مغبة استنشاق الهواء داخل الصالات المغلقة، لأن جوّها مشبع بالبخار المحمل بالكلور المستعمل في تعقيم مياه المسابح، وقد جاءت نتائج تلك الدراسات لتوجّه أصابع الاتهام إلى الكلور بأنه هو الذي يقف خلف زيادة حالات الإصابة بالربو والحساسية بين السباحين والعاملين في المسابح.

وعلى الأهالي الذين يحرصون على تعليم أولادهم في المراحل المبكرة من عمرهم، دروساً في السباحة داخل صالات مغلقة غير مهواة بشكل جيد، أن يحسبوا ألف حساب قبل إرسالهم إلى تلك المسابح، أو هذا على الأقل ما سبق أن حذّرت منه دراسة بلجيكية نشرت في مجلة الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال، فقد لفتت إلى أن الأطفال الذين يتلقون دروساً لتعلّم السباحة في مسابح مغلقة، يكونون عرضة لتغيرات رئوية سلبية تمهّد الطريق للإصابة لاحقاً بالربو، وإلى التهاب في القصبات، ومعاناة من ضيق التنفّس أثناء الهرولة.

4- كشفت بحوث أن الكلور لا يقضي على الجراثيم الضارة فقط، بل يمكنه أن ينال من الجراثيم النافعة التي توجد في الأمعاء، فلهذه الجراثيم المجهرية أهمية خاصة في إنجاز عمليات الهضم الطبيعية، وتشكّل خط الدفاع الأول في الأمعاء في مواجهة البكتيريا الضارة، وتساهم في صنع الفيتامين ب،12 والفيتامين ك، كما أنها تعمل على إنتاج بعض الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة التي تفيد في خفض مستوى الكوليسترول السيئ في الجسم. وهناك مؤشرات علمية تفيد بأن جراثيم الفلورا، تؤدي دوراً في الحماية من مرض القولون العصبي الذي يعتبر من أكثر أمراض الجهاز الهضمي انتشاراً.

نصل الآن إلى بيت القصيد، وهو كيفية الحماية من تأثيرات الكلور. إن خير ما يمكن عمله للحد من أخطار الكلور، هو التقيّد بالإرشادات الآتية:

– عدم تناول مياه الشرب مباشرة من الصنابير، بل يجب تركها ترقد لمدة ساعة قبل تناولها حتى يتطاير الكلور الموجود فيها.

– وضع قبعة لحماية الشعر من الكلور في المسبح، ووضع نظارات لحماية العينين، والاستحمام بماء نقي فور الخروج من المسبح.

– اختيار المسبح جيد التهوئة أو المكشوف للهواء الطلق.

أخيراً، يبقى علينا معرفة أن ماء جافيل مطهّر قوي يقضي على الجراثيم والفطريات والفيروسات، بما فيها الآيدز، إيبولا، أنفلونزا الطيور، وأنفلونزا الخنازير. وينبغي أيضاً معرفة أن قدرة ماء جافيل التطهيرية ليست فورية، بل يحتاج مدة ربع ساعة تقريباً كي يكون في قمة فاعليته المطهرة. ويستعمل ماء جافيل من جانب العامة في شكل كثيف وبطريقة خاطئة في أعمال التنظيف، وغسل الأطباق والملابس وغيرها، لينتهي به المطاف في أحواض الصرف الصحي، ما يخلّف عواقب بيئية مدمرة للكثير من أشكال الحياة التي تعيش في الوسط المائي، فضلاً عن التسمّم بماء جافيل الذي يكون الأطفال أول ضحاياه.

العدد 1107 - 22/5/2024