اللاّعنف.. ثقافة إنسانية حضارية يجب أن تسود

تحمل الحياة في مسيرتها أضداداً تعمل على انتقالها من طور إلى آخر من أجل رقي البشرية وأخلاقياتها، وذلك من خلال التعامل الإنساني على المستوى الشخصي أو العام. ولما ساد العنف تلك العلاقات، كان هناك من فكّر وعمل من أجل محاربة هذا العنف أو القسوة أو الاضطهاد، بسلوكيات وممارسات سلمية هدفت للوصول إلى غاياتها وأهدافها بطرق وأساليب لا عنفية. ولعل أشهر من رسّخ وانتهج هذا الطريق هو المهاتما غاندي الذي عمل على استقلال الهند بوسائل سلمية لا عنفية.

 لقد عُرّف اللاعنف من قبل المهتمين بعدة تعريفات، منها ما جاء في الموسوعة السياسية على أنه سلوك سياسي لا يمكن فصله عن القدرة الداخلية والروحية على التحكّم بالذات وعن المعرفة العميقة للنفس. كما يمكن تعريفه على النحو التالي: هو وسيلة من وسائل العمل السياسي والاجتماعي تستبعد القوة في الوصول إلى أهدافها وتفتقد التعدي على حقوق الآخرين وتقوم على أساس الاعتراف بالآخر.

الفيلسوف البريطاني بيرتراند رسل عرّف اللاعنف بأنه (سلوك عقلاني يهدف إلى تفادي الصراع مع طرف معين أو أطراف محددة بغية إحلال السلام والوئام والانسجام مع الجهات التي قد تكون سبباً من أسباب التوتر والقلق، وإقناع الآخرين بأن النزاع والحروب تؤدي إلى الكثير من الخسائر المادية والبشرية.

وأما أكاديمية التغيير لحرب اللاعنف فقد عرّفته على أنه (شن الصراع الحاسم على الخصوم المعاندين من خلال التحكّم المقصود والمخطط بأدوات القوة السياسية لتحطيم إرادة الخصم باستخدام أسلحة لا عنيفة قوية التأثير).(1)

لقد ظهر مصطلح (لاعنف) أول مرة سنة 1920 وسمت به الصحافةُ الحركةَ السياسيةَ التي أطلقها المهاتما غاندي ضد الاستعمار الإنكليزي للهند. باعتباره منهج فعل نوعي يتيح الصراع ضد العنف باتِّباع أسلوب غير عنيف، ولأنه نوع من المقاومة السلمية أو تعويل على المقاومة السلبية، سماه غاندي (سلاح الضعفاء)، وهو الذي يتجنب العنف دون أن يتمكن دوماً من اقتلاعه من جذوره، ويحدُّ منه دون أن يستطيع دوماً منعه من الاندلاع والتفجر والانتشار.

يتكون مفهوم اللاعنف من حركتين: رفض العنف، أولاً، واتباع منهج في الفعل لا يستعمل العنف، ثانيًا، وذلك من أجل بناء الحياة وصونها والتوقف عن إعدام الوجود وتصحير المجتمع ونشر الخوف والذعر بين الناس، ومن أجل احترام الكرامة الإنسانية وتقييد استعمال القوة بحبائل الحق والخير والجمال. يختلف اللاعنف، بوصفه حركة نبيلة وقيمة مطلقة تؤسِّس للمصالحة وتدعو إلى احترام الذات والتعايش مع الآخر، عن الفعل الخالي من العنف في الظاهر الذي يؤجِّل ويناور ويخفي الضعف ويضمر الحقد ويؤسِّس للقتل ويبرمج الحرب ويقنِّن الصدام بين الشعوب والأديان.(2)

وفي القرون الماضية صارت تلك الأفكار أكثر وضوحاً لاسيما عندما تحوّلت وتطوّرت إلى حركة سياسية في بلدان متعددة، كالهند على يد المهاتما غاندي، وفي الولايات المتحدة بنضال الثائر مارتن لوثر كينغ من أجل المطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية. 

وصف المهاتما غاندي النضال اللاعنفي بالكلمات التالية:

(اللاعنف لا يعني هذا الخضوع المذل أو الخنوع لفاعل الشر، لكنه يعني مواجهة إرادة الطاغي بشخصيتك. العمل بهذا القانون الوجودي يمكّن الفرد الوحيد من تحدي قدرة الإمبراطورية الظالمة للاحتفاظ بكرامته وديانته، ونفسه، وروحه، ويؤسس لسقوط الإمبراطورية وأجيالها المتلاحقة).

يأتي ذلك انطلاقاً من اعتبار أن أي شكل من أشكال العنف جريمة ضد الإنسانية، مهما كان حجم هذا العنف، فهو دائماً مدمّر للإنسانية لأنه يخلق دوائر لا منتهية من العنف المتبادل.

في كتاب (حرب اللاعنف) يميّز المؤلفون بين حرب اللاعنف والاستجابات السلمية الهادئة للصراعات، فحرب اللاعنف هي مقاومة ولكن بأسلحة أخرى، ولذلك فهي تتشابه مع الحرب العسكرية من حيث أنها توحّد القوى وتُشعل المعارك وتتطلب استراتيجية حكيمة وخطة محددة وجنوداً يتميزون بالشجاعة والتضحية، وكذلك تدريباً متواصلاً على تكتيكاتها.

وأسلحة اللاعنف كما يقول المؤلفون ليست حيلة العاجز، بل إنها نتاج حضاري لتفكير العقل السياسي الذكي، وفيها من القوة ما يجعلها قادرة على إحداث التحوّلات المطلوبة، وتنقسم إلى ثلاث مجموعات أساسية: الاحتجاج والإقناع اللاعنيف، وعدم التعاون، والتدخل المباشر.(3)

لقد اعتمد غاندي على مبدأ اللاعنف الذي يستند إلى احترام عميق للقانون، ويدعو الناس إليه بقوله: إن على الذين يستخدمونه أن يفعلوا ذلك بطريقة غير عنيفة دائماً، ويركّز غاندي أيضاً على واجب الطاعة المدنية العام، وعلى ضرورة محاولة كل الصور الدستورية للعمل السياسي أولاً، وهذا التصور الذي يُطرح هو تصور مطلق للاّعنف، وهو التصور الذي عُدَّ نظرية سياسية وصلت إلى مصاف المبادئ السامية للإنسانية.

لقد رسخ المهاتما غاندي مبادئ اللاعنف التي يُطلق عليها أحياناً مبدأ المسالمة بقوله:

(إن عقيدتي بشأن اللاعنف لم تعتمد على سلطان شخص، بل نشأت من دراستي لكل أديان العالم). ويضيف: (إن الديانات المختلفة قاطبة هي زهور روضة واحدة، وأفنان دوحة باسقة). (4)

تقوم قواعد اللاعنف على مجموعة من المبادئ، أهمها: المقاومة لا الاحتجاج، والفوز بالطرف الثالث، والعلنية، والعمل المباشر، والاقتراب غير المباشر، والالتزام بمبدأ اللاعنف، والنظرة إلى الممكن والصواب.

وهنا، تحتاج الحركات التغييرية إلى أن تدرك الفرق بين المقاومة والاحتجاج، وأن تستخدم الأساليب المناسبة للخيار الذي اتخذته سواء كان قراراً بالمقاومة أو الاحتجاج، فالمقاومة عمل يهدف إلى التغيير وتقوم على العصيان والتمرد، ولكن الاحتجاج قد يكون مجرد تعبير عن موقف ثم العودة والإذعان.

ومطلوب من الحركات التغييرية أن تصوغ فكرتها ورؤيتها للمستقبل بما يلهب عواطف الجماهير ويقنعها بالعوائد والفوائد المتوقعة لعملها ومواقفها، وإقناعها بقدراتها وإمكانياتها، وأن تهتم بتوجيه رسائل للجماهير، باعتبارها أداة الحسم الرئيسة في حرب اللاعنف.(5)

 ولأن السلمية لا تعني التواكل أو السلبية، وإنما تعني ابتكار الطرق والآليات لتأكيد النضال اللادموي، ولكنه في الوقت نفسه لا سلبي، لجأت أكاديمية التغيير-وهي مؤسسة مهتمة بدراسات بناء المجتمعات القوية تأسست في عام ،2006 إلى استقراء حروب المستقبل من خلال التنظير لـ(حروب اللاعنف). تعرّض كتاب (حرب اللاعنف-الخيار الثالث)-الذي صدر عام 2013 – لتعريف حروب اللاعنف واستعراض نشأتها وجذورها، ويؤكد هذا الكتاب أن أول من تعرض لحروب اللاعنف وإن كان قد استعمل مصطلح (العصيان المدني) للدلالة عليها، هو الكاتب الأمريكي هنري دايفيد ثوراو في مقاله الشهير (العصيان المدني) عام 1849. كما يستعرض الكتاب العناصر الأساسية اللازمة لحروب اللاعنف، من بينها، معرفة الدرجة التي يقف عليها الفعل، وهل هو مجرد فعل احتجاجي، أم فعل من أفعال المقاومة، وبين الاحتجاج والمقاومة بون كبير يتوقف على طبيعة الصراع والخصم، والمهم في هذا أنه من الطبيعي أن تبدأ أي مقاومة كرد فعل على قضية كبرى كالاحتلال مثلاً، لكن هل استراتيجيتها المتبعة استباقية أم دفاعية؟ هل يستدرج المجتمع إلى ردود أفعال أم أنه صانع الأفعال؟ ما هو رصيد النشاط من العمل الاستباقي والاستئثار بعنصر المفاجأة؟ هل هدف العمل بدايةً هو تسجيل حضور أم تغيير وضع؟، وهل النشاط سلوك مستمر متصاعد في مسار واضح ينتهي إلى تحقيق هدف المرحلة، أم أنه سلوك عرضي مآله الإذعان لسلطة النظام وضغطه في نهاية المطاف.

ومن بين سمات حرب اللاعنف التي يعرض لها كتاب (الفوز بالطرف الثالث)، يؤكد أن هذه النوعية من الحروب لا يحسمها دائماً أي من طرفي الصراع المباشرين-أي النظام والحركة المقاومة- بل إن عنصر الحسم هو قدرة أحد الطرفين على الفوز بالطرف الثالث والتأثير فيه، وهذا الطرف هو المجتمع الذي كثيراً ما يتم نعته بالسلبية، أو الذين يوصمون عادة بأنهم قابعون في السبات العميق. وفي هذا تحدٍّ لدراسة كيف يعمل العقل الجمعي للجمهور.

ويقول المؤلفون إذا كان اعتقاد البعض أن اللاعنف يعبر عن الضعف وأنه حيلة العاجز ويعني الانبطاح، فهذا غير صحيح، مؤكداً أن حروب اللاعنف ليست سلبية ولا تتجاهل وجود الصراع، بل تسعي لإيجاد حلول فاعلة وتركز على تهديد قبضة الديكتاتور على مصادر القوة، عبر استخدام أسلحتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإعلامية. فهو لا يعني التسامح وإنما هو استراتيجية في إدارة الصراع والتعامل مع الخصم الأقوى، سعياً للإطاحة به بعزل مصادر القوة عنه.(6)

والسؤال الجوهري المطروح في هذا الصدد هو: هل تقدر المقاومة المدنية السلمية على حلِّ التناقض الحدِّي بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي؟ وكيف تخرج الهويات الخصوصية من حالة الانطواء على الذات والدفاع ضد العولمة الاختراقية، فتجبرها على المشاركة في صناعة السلم العالمي(7)؟!

أحيانًا يجد المرء نفسه واقفًا بين خيارَي الجبن والعنف. فأيهما يختار؟ لقد قال غاندي، عندما سُئِل عن موقفه بين الجبن والعنف، أنه ينصح بالعنف، لكنه أردف بأن اللاعنف هو أفضل وأسمى بما لا يُقاس من العنف. فهو يتطلب شجاعة كبيرة واحتراماً للخصم.

لقد رفض غاندي التسليم بفكرة أن العنف قضاء محتوم، وإن كان يظهر لنا بأنه كذلك. فلأن العنف من صنع البشر فنحن قادرون على تفكيك هذا القضاء. عندئذٍ فقط نستطيع أن نقدم لأطفالنا حقَّ الحلم بعالم تملؤه الحرية والكرامة.

لذا، لا يجوز بأيِّ شكل تبرير العنف أو شرعنته. فالإنسان حيوان شرعي يريد أن يكون دائمًا على حق. والإنسان العنيف يسيطر ليبرِّر العنف، فيبني لذلك عقائد لـ(العنف المشروع) في نظره، كالدفاع عن النفس وفكرة الآخر المعتدي. وهنا يمكن الحديث عن معنى كلمة (لا) في اللاعنف، على اعتبار أنها ترفض أيَّ تبرير للعنف، وتنزع أية شرعية عنه، وتقطع الطريق على أية صلة بالعنف الذي هو جريمة ضد الإنسانية، وليس حقاً من حقوق الإنسان. فالسيطرة على آلية العنف العمياء مستحيلة. كذلك فإن الضرورة لا تبيح الشرعية: حتى وإن بدا العنف ضرورياً فهو ليس مشروعاً.

حقًّا إن اللاعنف يدعونا، كما قال مولِّر، إلى تقويض جدران العنف والكراهية كي نبني مكانها جسور المحبة والسلام. وهنا يجب أن نتحلَّى بالخيال المبدع: فهندسة الجدران لا تحتاج إلى مخيلة، وحسبنا أن نتبع الثقالة الأرضية؛ أما هندسة الجسور فتحتاج إلى إبداع عظيم لأنها تعاكس هذه الثقالة!(8)

 

مراجع:

(1) http://ejabat.google.com/ejabat/thread?tid=5ef7d9e21e4dd6ec

(2) http://www.maaber.org/issue_june08/non_violence2.htm

(3) كتاب حرب اللاعنف- مجموعة مؤلفين

(4) اللاعنف بين مارتن لوثر كينغ وغاندي http://shrsc.com/issues/laonf/28n.htm

(5) كتاب حرب اللاعنف- مجموعة مؤلفين

(6) http://www.fj-p.com/Our_news_Details.aspx?News_ID=17089)

(7) http://www.maaber.org/issue_june08/non_violence2.htm

(8) http://www.maaber.org/issue_june08/lookout4.h

العدد 1105 - 01/5/2024