تساؤلات في الحوار والسياسة والديمقراطية…

تشاهد، تسمع، وتفكّر… تقرأ وتفكّر… بكلِّ ما يجري على أرضنا العربية في مختلف الميادين، وعلى المستويات كافة، فتصاب بالتعب والإرهاق والعياء، ويحتلُّك القلق الوجودي والألم اللذان يتعاقبان عليك تعاقب الليل والنهار، وتبدأ الأسئلة المضنية، وكلّ سؤال ينجب سؤالاً آخر:

لماذا لا تقيم السلطة العربية حواراً جدياً ومسؤولاً وواعياً مع المثقفين من مفكّرين وكتّاب وأدباء وباحثين ونقّاد… في المجالات المختلفة لمواجهة ومعالجة ما نواجهه وطنياً وقومياً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فكرياً وثقافياً..؟ ولكن أليس من السذاجة بمكان أَنْ نطلب من الذي يحارب الثقافة والفكر، ويحاصر الإبداع والتجديد والعقل النقدي.. أَنْ يقيم مثل هذا الحوار؟!

في منطقتنا العربية لا أحد يحاور أحداً، فالمستبدّون والمتسلّطون والمتشدّدون والمتطرّفون والمتعصّبون والظلاميون لا يحاورون. (في أحسن الأحوال حوارهم لا يتجاوز أنفسهم ولا يتعدّى حوار الطرشان). وفي الأصل هل يمكن أَنْ يكون هناك حوارٌ حقيقي خارج فضاء الحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية؟ كلُّ شيء يشير إلى أنّ السلطة العربية لا تحبّ أَنْ ترى في المثقفين إلا حاشية من الطبّالين والزمّارين يسيرون في ركابها.. وأنها لا ترى، وفق تقليد شرقي قديم، للمثقف من مهمة أخرى غير أن يكون بين يدي السلطان كاتباً أو خادماً أو مؤنساً أو مادحاً على حدّ تعبير المفكّر (حافظ الجمالي).

إننا، ومنذ مئات السنين، في حالة ((جوع)) مزمن إلى الحوار، والحسّ النقدي، والتعددية الحقيقية، وإلى حرية التعبير والانتماء السياسي دون أَنْ يوصل ذلك كلّه إلى القمع والمصادرة والزج في السجون والأقبية، وإلى قطع الأرزاق والأعناق…

***

 لماذا، على وجه الإجمال، لم يهتمّ العرب، وأزعم تاريخياً، بعلم السياسة اهتماماً يليق به، فهذا الإهتمام، في حدود علمنا، لم يتجاوز حدّه الأدنى؟

ولماذا يفكّر العرب ـ إنْ فكّروا ـ تفكيراً سياسياً قوامه التأمّل والتجربة والخطأ والأبيض والأسود إذا صحّ التعبير؟ والسلطة العربية، ومن يقف على يمينها وعلى يسارها، هل تفكّر، حقاً، تفكيراً سياسياً جدياً وناجعاً؟ وإنْ فكّرت بسبب هذه الأزمة أو تلك، هذا الحدث أو ذاك، هل تقوم بتعديل تفكيرها وتغيير ممارساتها واتجاهاتها..؟

في عصر الترجمة، عصر الحضارة العربية الإسلامية الزاهي، اهتمّ أجدادنا العرب بالتراث اليوناني اهتماماً عظيماً، وجهدوا في سبيله جهداً كبيراً، فقاموا بنقله وترجمته إلى اللغة العربية، إلا أنّ كتاب (السياسة) لأرسطو لم يترجم إلى العربية على الإطلاق (؟) ومحاورات أفلاطون السبع لم تترجم إلى العربية ترجمة كاملة، وتلخيص الفيلسوف العظيم المبدع (ابن رشد) لكتاب (السياسة) وتفسيره مفقود في العربية (؟) هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد واجه التراث اليوناني معارضة حادّة وتهديدات عنيفة وصرخات مدوّية استعان بها أصحابها تارة بالسلطان، وطوراً بالدّهاء، وتزاحم في مواكبها الفقهاء والمتكلّمون والأدباء والنحويون، بل والسياسيون، يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في ذلك: يكفي أَنْ نقرأ المناظرة التي نقلها أبو حيان التوحيدي في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) بين أبي بشر متّى بن يونس المترجم والمنطقي وشارح أرسطو، وبين أبي سعيد السيرافي اللغوي التقليدي الشهير، لنشاهد إلى أيّ مدى بلغت العداوة والمشاحنة بين أصحاب علوم الأوائل (العلوم المنقولة عن اليونانيين..) وأصحاب علوم العربية وعلوم المنقول (؟).

ولعل من المفيد، هاهنا، أَنْ نشير إلى أنّ كتابة هذه المناظرة، التي وقعت أمام الوزير (ابن الفرات سنة 323 هـ) بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متّى بن يونس في النحو العربي والمنطق اليوناني، قد جرتْ في الليلة الثامنة، ومن المعروف أن كتاب الإمتاع والمؤانسة يقع في أربعين ليلة سامر فيها أبو حيان التوحيدي (312 ـ 414 هـ / 924 ـ 1023 م) الوزير (ابن سعدان) الذي استوزره صمصام الدولة البويهي من سنة 373 إلى سنة 375 هـ، ومن ثم مات مقتولاً في سجنه (..؟).

وهذا بعض ما جاء في تلك المناظرة، قال أبو بشر متّى بن يونس: المنطق اليوناني مفتاح كل العلوم، وبلا منطق لا يرتقي أحد إلى الكمال… والمنطق آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح القول من سقيمه… وقال: المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، والناس في المعقولات سواء… لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وحاجة النحوي إلى المنطق ملحة…

وممّا جاء في ردّ السيرافي: القياس المتحكم في الكلام هو ((النظم)) و((النحو))، وليس كل مافي الدنيا يوزن، بل فيها ما يكال ويقاس ويحذر.. والمنطق وضعه فرد يوناني، وكيف لبقية الأمم بهذه الآلة؟ ومع ذلك توصلتْ إلى معايير صحيحة لكلامها… الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يتوصل إليها إلا باللغة وإعرابها، وقال: النحو منطق مستخرج من العربية، لكنه مفهوم باللغة… ويُذكر أن الجالسين كانوا يرحبون بآراء السيرافي، ويضيقون بأفكار متّى بن يونس (؟).

***

 أفترض، ويفترض المدقّق في أحوال الديمقراطية، بل في (أزمة) الديمقراطية في العالم العربي أنّ أزمة الديمقراطية ليست أزمة هذا النظام العربي أو ذاك، بل هي أزمة الديمقراطية على مستوى المثقفين والمفكّرين والسياسيين… أما على مستوى الأنظمة الرسمية فلا توجد أزمة على الإطلاق(..؟). فهذه الأنظمة من ألفها إلى يائها تمارس الاستبداد السياسي بامتياز…

ويبقى السؤال: هل مارس، حقاً وبالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، العالم العربي الديمقراطية من زمن (الّلات والعُزَّى) حتى هذه اللحظة الراهنة؟ هل (جرّب) العرب الديمقراطية سياسياً واجتماعياً؟ فـ ((أخفقتْ)) ومن ثم دخلتْ في أزمة؟ والأنظمة الرسمية هل تتحمّل هذا (الإخفاق)، وهذا (التأزّم)؟ أم أنّ الأمر ليس أكثر من مجرد خلافات سياسية، فكرية، أيديولوجية، اجتماعية بين الأنتلجنسيا العربية (التي يُفترض أَنْ تحمل الوعي في وجوهه المختلفة) نفسها؟ هل يمكن أَنْ نفهم ونعي ما يجري بمعزل عن تأزّم التنظيمات السياسية العربية الذي يرتبط ارتباطاً عضوياً بالوضعية العربية المتأزمة سياسياً، اجتماعياً، اقتصادياً…؟

وأخيراً هل نستطيع أَنْ نقول: إنّ الفكر السياسي العربي، غالباً، لم يستطع أَنْ يستجيب استجابة خلّاقة لمعطيات الواقع، وبالتالي لم يتم التواصل الفعّال بينهما، أيْ بين الفكر والواقع العربيين؟ وهل يمكن القول بأنّ هناك علاقة ترابطية جدلية بين أزمات المجتمعات العربية وبين (أزمة) الديمقراطية والفكر السياسي العربي عموماً؟.

العدد 1105 - 01/5/2024