التنمية من الجذور إلى أعلى: قراءة في مشروع التقرير الاقتصادي والاجتماعي للحزب الشيوعي السوري الموحد

ما يميز هذا التقرير (الذي نشرته جريدة النور في عددها 679) أنه قدّم عرضاً شاملاً للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية دون إهمال منعكسات البعد السياسي في المتغيرات السورية، وتكمن جدية التقرير من خلال طرحه للنقاش العام كي يقدم في مرحلة تالية إلى المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد، وهذا للأسف ما تتجاهله الحكومة السورية سابقاً وحالياً، إنه إشراك السوريين جميعاً في صياغة مستقبلهم وتبني رؤاهم.

لقد تناول التقرير بشكل مكثف الوضع الاقتصادي والاجتماعي في سورية قبل الأزمة وآثار الأزمة ومنعكساتها، دون إغفال الوضع الذي وصلت إليه التنمية البشرية في سورية، من خلال التطرق إلى واقع التعليم والصحة والبطالة والفقر والمرأة ومشاكل جيل الشباب وغيرها من أبعاد التنمية البشرية.

لكن بما أن التقرير سيُعتمد من خلال مؤتمر الحزب، فهذا يدل على أن هذا المشروع عبارة عن البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للحزب (كما ورد في رابعاً- المهام والتوجهات المستقبلية.. موقف الحزب)، ونحن بأمسّ الحاجة خلال الفترة الراهنة إلى وضع رؤية وتصور لما يجب أن يكون عليه الواقع الاقتصادي والمعاشي في سورية للمرحلة القادمة.

من خلال قراءة المشروع أورد النقاط التالية علّها تغني المشروع:

1- قدّم مشروع التقرير، حاله حال التقارير والدراسات كافة التي صدرت عن سورية، السياسات والآليات المقترحة لمرحلة إعادة البناء والإعمار، وكأن سنوات الأزمة ستنتهي قريباً أو، أن أجل انتهائها واضح، متجاهلاً الآليات والإجراءات الواجب اتباعها خلال سنوات الأزمة للحد من المنعكسات السلبية للأزمة، رغم أنه تطرق في عدة مواقع لضعف السياسات وعدم قدرة القرارات المتخذة حالياً على التخفيف من الآثار الضارة الأزمة؛ فانعدام الرؤية المستقبلية هو أكبر مسببات الاستمرار في العنف.

2- أشار مشروع التقرير إلى أهمية وجود نظام ديمقراطي وطني تعددي، لكن حبذا لو جرت الإشارة إلى مفهوم الديمقراطية المرجوة وتوضيحها، إذ إن النظرة البسيطة لمفهوم الديمقراطية المتمثلة في حق التصويت والترشح وحرية الانتخابات، وأن الديمقراطية هدف مجرد لذاته، يؤدي إلى الابتعاد عن الجوهر الحقيقي للديمقراطية بأنها أداة من أجل تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية ونشر الحريات الثقافية والفكرية، والعدالة في توزيع الدخول والثروات، ومحاربة الفساد والقدرة على تحقيق تكافؤ الفرص؛ فالديمقراطية ليست هدفاً سياسياً مجرداً عن الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، ويقول في ذلك روبرت ريش (إذا كان دور النظام الرأسمالي توسيع وتكبير الكعكة الاقتصادية، فإن الدور الحقيقي للديمقراطية هو تقسيم شرائح هذه الكعكة لكي تصل إلى جميع فئات المجتمع بشكل متكافئ نسبياً، فهي تشمل نظاماً عاماً لإنجاز ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال وجود دولة قوية قادرة على أن تقرر قواعد اللعبة بما يعكس الصالح العام).

3- ضرورة تضمين التقرير قراءة وتحليل علم الاجتماع  السياسي في وضع التصورات المستقبلية، إذ (لا أمان لمجتمع يزداد فيه الجوع والفقر والحرمان البشري، ولا مستقبل لوطن يتعاظم فيه الشعور بالعجز لدى مواطنيه، ولا استقرار لبلد يفتقد العدالة في اقتسام الثروة الوطنية، ولا تنمية مجتمعية في دولة تتعاظم فيها أعداد الأطفال المحرومين من تلبية احتياجاتهم الإنسانية).

4- أهمية الإشارة إلى إسهام الحكومة، من خلال قراراتها المتناقضة أو قراراتها الارتجالية، في انتشار الدولرة (غير المعلنة) والتضخم المنفلت، وعدم وجود المرونة الكافية لدى الحكومة للتجاوب مع المتغيرات المتسارعة التي تصيب الاقتصاد الوطني.

5- لم يتوسع التقرير في تحليل السياسات المالية والنقدية والتجارتين الداخلية والخارجية، التي لا تتناسب ولا تنسجم إطلاقاً مع الأهداف المعلنة للحكومة.

6- أهمل التقرير دور المؤسسات السياسية والاقتصادية بصفتها عاملاً رئيساً في تحقيق الأهداف المعلنة للحكومة، ذلك أن الدول تتطور وتتقدم حين تضع مؤسسات للجميع تعمل على تعزيز النمو، وتفشل الدول حين تحقق مؤسساتها مصالح نخبة محدودة بدلاً من خلق منافع اقتصادية وسلطة سياسية يتم تقاسمها على نطاق واسع.

7- إفراد فقرة خاصة بالتحديات التي تواجه صناع القرار خلال الأزمة أو التي سيتعرضون لها بعد الأزمة، خاصة مسألة الديون الخارجية واستقلالية القرار السياسي والاقتصادي.

8- ضرورة الحديث بشكل مفصل وموسع عن آليات التنمية في ظل النزاع المسلح، خاصة أن الحكومة استمرت بالابتعاد عن أداء دورها الاقتصادي والاجتماعي الذي يجب أن يتضخم في الأزمات والحروب.

بناء على المعطيات والتحليل الوارد في مشروع التقرير، نقترح إعادة تعريف لمفهوم التنمية بحيث تصبح: وضع السياسات الكفيلة بتحسين ظروف الحياة والمعيشة للأغلبية المستبعَدة والمهمشة من المهجرين والنازحين وذوي الشهداء وكل من تضرر نتيجة عدم الأمن والاستقرار، وإعادة إدخال هذه الفئة في عجلة النشاط الاقتصادي وتفعيل دورها الاجتماعي والسياسي، وهي ستفرز طبقات اجتماعية سليمة قادرة على قيادة الاقتصاد الوطني برؤية وطنية داعمة لتحقيق الأمن والاستقرار على المدى الطويل؛ أي نحن بحاجة إلى تغيير جذري للنموذج المتبع ووضع النموذج الذي يلائم الاقتصاد والمجتمع السوري في ضوء الظروف المحيطة وفي ظل التحديات التي يواجهها.

فإذا كانت التنمية الاجتماعية والاقتصادية تعني شيئاً، فهي قبل كل شيء يجب أن تعني تحسناً ملموساً في ظروف الحياة والمعيشة لعامة الناس، وليس هناك من أي سبب جوهري، سواء أكان أمنياً أو أي نوع آخر، يمكن أن يفسر لماذا ينبغي على أعداد هائلة من الناس أن تبقى مستبعدة بشكل منظم من التنمية، والأسوأ من ذلك: لماذا ينبغي أن يصبحوا ضحايا لإغناء أناس آخرين وإثرائهم؟ إن الناس لهم حق متساوٍ في ظروف أفضل للحياة والمعيشة.

وهو ما يؤكد ضرورة أن تنتقل التنمية من الجذور إلى الأعلى وليس العكس، ويتطلب ذلك:

– عدم الركون إلى ارتفاع معدلات العجز في الموازنة العامة أو المديونية العامة للدولة، إذا ترافق ذلك مع خلق وتوفير فرص العمل اللائق، والقادرة على الحفاظ على القوة العاملة دون هجرتها، وتلبية الخدمات الأساسية للمواطن، وذلك حفاظاً على السلم وعدم عودة النزاع المسلح.

– تحميل القطاع الخاص جزءاً من المسؤولية الاجتماعية متناسبة مع الحوافز والمزايا التي تمنح له.

– إدماج الفقراء في العملية الاقتصادية والنشاط المجتمعي، بمعنى تمكين حقيقي للفئات الفقيرة والمهمشة والمستبعدة من خلال الاندماج الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فهي الوسيلة الوحيدة لرفع الأسر فوق عتبة الفقر، وطبعاً يجب ألا ننسى الاندماج المستقبلي بما يحقق التكافؤ بين الأجيال.

– وضع سياسات ضريبية تسمح بإعادة توزيع الثروة المتشكلة خلال فترة الأزمة.

– أن تقوم الحكومة ممثلة بقطاعها العام بتنفيذ المشروعات التي تولّد تمويلاً ذاتياً سريعاً، كي تتمكن من تمويل نفسها بنفسها وبما يبعدها عن الاقتراض والمديونية، وبما يؤمّن قدراً من السيولة تساعد في تنفيذ مشروعات أخرى داعمة للاقتصاد الوطني، مثل شركات الاتصالات، والنقل العام.

– تأمين الخدمات الأساسية ومتطلبات الإغاثة الإنسانية، بما يخفف من وطأة الأزمة على المواطن ويعيد الثقة بالحكومة على أنها الضامن الوحيد لكرامة المواطن.

العدد 1105 - 01/5/2024