«نظرية الدومينو» لصالح شعوب أمريكا اللاتينية

أشار عدد من المحللين السياسيين إلى أن القادة اليساريين في دول أمريكا اللاتينية نجحوا في تفعيل (نظرية الدومينو) الأمريكية، لكن في الاتجاه الذي يحقق مصالح شعوبهم وبلدانهم(1).فإذا كانت واشنطن قد صاغت هذه النظرية من أجل تثبيت الأنظمة الرأسمالية (الموالية لأمريكا) في غرب أوربا في يد الشيوعية، على أساس أن سقوط دولة سيؤدي إلى سقوط باقي الدول، ولتداعي (قطع الدومينو)، التي يتم ترتيبها بطريقة معينة، فإن قادة أمريكا اللاتينية ومعهم نخبة واعية في مختلف المجالات، جعلوا من خدمة أوطانهم والانحياز لفقرائها، وتطويرها وتنميتها واستقلالها، استراتيجية شاملة، لإسقاط أنظمة الحكم الديكتاتورية الفاسدة والعميلة (لأمريكا والغرب) في معظم أنحاء أمريكا اللاتينية، فتهاوى عدد من تلك الأنظمة الرجعية كتهاوي قطع (الدومينو)، وظهرت على أنقاضها أنظمة سياسية شعبية، ديمقراطية، بدأت عملية مصالحة تاريخية وطنية واسعة تجاوزت ميراث الماضي الثقيل، مع خطط واقعية لإعادة بناء بلدانها على أساس العدالة الوطنية والاجتماعية والديمقراطية الحقيقية، فحققت هذه البلدان مؤشرات جيدة في شتى المجالات. سياسياً باتت معظم دول أمريكا اللاتينية ذات أنظمة ديمقراطية حديثة، واقتصادياً  بدأت عملية نهوض اقتصادي قوي، نقل هذه الدول من حالة الفقر والتخلف إلى خطوات راسخة في طريق التنمية الوطنية الشاملة، حتى أن بعضها حقق قفزات كبرى جعلتها قريبة جداً من دخول منظومة الدول المتقدمة صناعياً واقتصادياً، وتأتي البرازيل في قمة هذه المجموعة، فبعد أن كانت على حافة الإفلاس في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، باتت اليوم ثامن أكبر اقتصاد في العالم، على مقربة من أن تصبح ضمن بلدان (العالم الأول)، بل إن زعيم النهضة الكبرى، الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا، والذي لايحمل شهادة دراسية، فخر بأن بلده حقق مالم تحققه دولة أخرى في نصف الكرة الغربي(2).

وبعد تفكيك الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية في تسعينيات القرن الماضي، وحدوث ماسمي بـ (الثورات الملونة) في العقدين التاليين، في عدد من الجمهوريات السوفييتية السابقة، مثل جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا، ظن بعض الاستراتيجيين والسياسيين الأمريكيين والغربيين أن (نظرية الدومينو) تبعث من جديد وبزخم كبير في المناطق الحيوية والمحورية في العالم، وبلغ تفاؤل هؤلاء المنظّرين حدوده القصوى بعد التغيرات العاصفة التي جرت في تونس ومصر وليبيا في عام 2011 تحت اسم (ثورات الربيع العربي). وانتشرت بقوّة دعوات عدد من الأكاديميين واليساريين السابقين الانتهازيين، ولاسيما ممن يعيشون في الغرب منذ مدة طويلة، وعلى صلات قوية بأجهزة المخابرات هناك، وممن يعملون على إقامة أنظمة وفق متطلبات العولمة واقتصاد السوق والليبرالية الجديدة.. لإحياء مفعول (نظرية الدومينو) في الدول العربية ذات الأهمية الحيوية والاستراتيجية المحورية لأمريكا والغرب، وفي مقدمة هذه الدول سورية، التي تشكل عقدة جيواستراتيجية محورية ليس في المنطقة العربية وحسب، وإنما لمجمل إقليم (الشرق الأوسط) والدول والمناطق الإقليمية المتاخمة له. وبتخطيط وتوجيه المخابرات المركزية الأمريكية وبقية أجهزة المخابرات الغربية وطبعاً (الموساد) الصهيوني، ومراكز الأبحاث الاستراتيجية التابعة لها، انخرط كثير من المحسوبين على (النخب العربية) في (لعبة الدومينو) هذه، مع الدعوات الهستيرية للتدخل الأجنبي وإشعال الفوضى المدمرة، وتحطيم البيئة التحتية للدولة والمجتمع، تحت شعارات تروتسكيةخطيرة، ودفع استخباراتي غربي أطلسي وإقليمي (تركي)ورجعي عربي(سعودي-قطري) و(إسرائيلي)ب التأكيد.ولكن على مدى ما يقارب أربع سنوات من (الموجة الثانية) لما سمي ثورات (الربيع العربي) فشلت (نظرية الدومينو) فشلاً ذريعاً واصطدمت هذه (الموجة الثورية) الزائفة بجدار صلب من المقاومة السورية الشاملة والعنيدة، فبدأ التشكيك بحتمية نجاح (لعبة الدومينو) و(الموجة الثانية) من (ثورات الربيع العربي) المزعوم.

 إن ماحدث بعد فشل (لعبة الدومينو) الأمريكية-الأطلسية في سورية، شكل صدمة هائلة لدعاة (الربيع العربي)، فبدلاً من استمرار تساقط الدول العربية المستهدفة وفي طليعتها سورية، حدثت موجة شعبية ثورية عفوية مضادة (للعبة الدومينو)، أطلق عليها اسم (انتفاضة التصحيح) واتسمت بزخم جماهيري غير مسبوق في مصر بصفة خاصة، وكذلك في تونس، مطالبة بالعودة إلى مبادىء الثورات وأهدافها، والتحرر من مخططات وتوجيهات وأتباع الاستعمار بكافة أشكاله وألوانه.فالشعب المصري نزل بالملايين إلى الشوارع وأطاح بالرئيس الإخواني محمد مرسي في الذكرى الأولى لتوليه السلطة.

 أما تونس فتكاد تدخل في المجهول على حد قول رئيسها الإخواني راشد الغنوشي، حيث تعمّ المظاهرات جميع مدنها بعد أن ضاق الناس ذرعاً بسطوة السلفيين وحكم (الإخوان)، وفشل الحكومة في تنفيذ أي من وعودها، ولاسيّما بالنسبة لتحسين الواقع المعيشي.وجاء رد الشعب التونسي حاسماً في الانتخابات البرلمانية في الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأول (أكتوبر)، والتي أزاحت حزب (النهضة) الإخواني عن قيادة البلاد.

وفي ليبيا، فقدت السلطة المركزية السيطرة على البلاد، وأصبحت مناطق واسعة في قبضة جماعات مسلحة متناحرة لأسباب ليس لها علاقة بمصلحة الشعب الليبي وبقاء الدولة الليبية.ولم يعد مستبعداً، وفق مطلعين، أن تشهد ثورة ثانية في ليبيا، دون تدخل (الناتو) هذه المرة (3).

 وإذ يتساءل أحد الكتاب العرب: هل لما يحصل في سورية علاقة مباشرة بسقوط (نظرية الدومينو)؟!، فيقول: (يتطلب الأمر بحثاً عميقاً قبل حسم الإجابة. هناك من يعتقد أن صمود النظام السوري، ودخول الجماعات الإرهابية على خط الثورة السورية، تكفلاً بكسر موجة التغيير في العالم العربي) (4).

 لقد جاء الجواب العملي والحاسم على هذا السؤال من الشعب السوري بمختلف مكوناته وطبقاته وشرائحه الاجتماعية، رفضاً قاطعاً للإرهاب والتدخلات  الأجنبية كافة، وإسقاطاً مدوياً لـ (نظرية الدومينو) الاستعمارية ومن يروّج لها من خارج الوطن العربي وداخله.ونستذكر في هذا السياق إشارة السيد الرئيس بشار الأسد في خطابه أمام مجلس الشعب في 30 آذار (مارس) 2011 إلى مصطلح (الدومينو)، الأمريكي، الذي يقوم على فرضية مفادها (أن الدول العربية هي أحجار دومينو، وستأتي المشاريع لتضرب الأحجار أو تضرب حجراً ويسقط الباقي)، وأضاف الأسد مؤكداً: إن (ماحصل هو العكس فقد تحولت المشاريع إلى أحجار دومينو..وضربناها وسقطت واحداً تلو الآخر، وهذا المشروع سوف يسقط) (5).

 والخلاصة: لقد برهنت الشعوب في مختلف بقاع العالم على قدرة مدهشة في كشف أهداف ومرامي الأحلاف والاستراتيجيات والنظريات الاستعمارية المشبوهة، ومنها (نظرية الدومينو)، واستطاعت إفشالها وإسقاطها ولو بأثمان وتضحيات جسيمة، مؤكدة بما لايدع مجالاً للشك أن البشرية لن تعود إلى الوراء، وأن زمن (التلاعب بالعقول) والغرائز البدائية والدوافع المختلفة، قد ولّى نهائياَ وإلى غير رجعة، بصرف النظر عن بعض الانتكاسات والتصدعات المؤقتة هنا وهناك

الحواشي:

1- د.عماد جاد، (تجارب في هزيمة التخلف) (2/2)، جريدة (التحرير) المصرية، عدد 1 تشرين الأول/أكتوبر 2012.

2- المصدر نفسه.

3- فهد الخيطان، (هل سقطت نظرية الدومينو؟)، صحيفة (الغد) الأردنية، عدد 31 تموز (يوليو) 2013.

4- المصدر نفسه.

5- الوكالات، كلمة الرئيس بشار الأسد أمام مجلس الشعب السوري في 30 آذار (مارس) 2011.

العدد 1107 - 22/5/2024