حول مشروع التقرير الاقتصادي الاجتماعي للحزب الشيوعي السوري الموحد

 نقوِّم بالتشارك مع رفاق الحزب وثيقة هامة تُطرح في أشد ظروف بلدنا قسوةً، وثيقة سياسية واقتصادية واجتماعية، تتسم بالمسؤولية الوطنية وبالموضوعية والدقة، مسهمةً بسويّتها المهنية الرفيعة، في إعادة الاعتبار إلى الحركة السياسية السورية التقدمية التي ضعُفت، في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد الأزمة التي مازلنا نعيشها.

أود أن أسهم في صياغة الوثيقة، من خلال إبداء الملاحظات التالية:

1- يمزج مشروع التقرير بين الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحالة السورية الراهنة، أسباباً ونتائج ورؤىً مستقبلية ومهام.. وهو فعل عقلاني لأنه تعذّر، دائماً، الفصل بين تلك الجوانب، في تقاليد الأحزاب الجادّة.

كيف يمكن، على سبيل المثال، أن يطرح حزبٌ مسؤول، مشروعه للخروج من المأساة السورية التي تطحن المواطن، في معاشه وأمنه ومستقبله، دون أن يؤكد الحل السلمي (الذي لن يكون سلمياً صرفاً، بفعل وجود التيارات الدينية المتطرفة) ودون أن يشير إلى ارتكاز هذا الحل على المصالحة الوطنية، حجر الزاوية في استعادة السوريين قدرتهم على التعايش، مما يجعل مواجهة الإرهاب أنجعَ وأكثر فاعلية، شأنهم في ذلك شأن شعوب أخرى، مرّت بأحوالٍ شبيهة، ثم وجدت في المصالحة سبيلاً لاستمرار وجودها وبناء مستقبلها.

إن نقطة البدء في شغل أي حزبٍ، هي قدرته على تطوير خطه السياسي وممارسته،بحيث يلبّي حاجات زمنٍ متغير، اعتقدنا على نحوٍ ساذج، أنه سائرٌ بنا قدماً، وتبيّن أنه قابل للنكوص والتراجع الحاد…

2- يبني الحزب رؤيته، في التقرير، استناداً لخلفيته الفكرية المعروفة، بعد أن ضخَّ فيها خلاصة تطبيق أيديولوجيته الاجتماعية،في بلدانٍ ذات مستويات مختلفة في تطورها،عبر قارات أربع، لما يقرب من مئة عام.. غدت تلك التجارب موازية للنظرية، في أهميتها، وهي تسوّغ محاولة فهمٍ آخر لبعض فرضياتها وحتمياتها، التي امتُحنت بسعةٍ وتنوعٍ كبيرين، وأصبح عسيراً على حزبٍ علمي أن لا يعيد النظر، بفضل أدواتٍ وشروطٍ معرفيةٍ جديدةٍ، متاحة، تنفيذاً لوصايا المؤسسين.

يتنازل التقرير عن بعض المصطلحات التقليدية، ويخفف حدّة المفاهيم الصارمة،ناظراً إلى الحاضر والمستقبل بواقعية أكبر وبانفتاح وقدرة على التجدد.

لم نقرأ في التقرير مصطلحات الأزمة العامة أو المالية للرأسمالية، والتحذيرات المتكررة لعدم الوقوع في فخ المصارف الدولية، أو الحذر الشديد من الرساميل والتوظيفات الأجنبية والخوف من القروض.. الخ، ذلك أن رفاقنا يعتقدون، كما هو جلّي، أن إعادة الإعمار ومتابعة مسيرة التنمية والنمو، دون توظيفات ورساميل وقروض وتعاون دولي واسع، في مشروع استعادة سورية عافيتها السياسية والاقتصادية، هو أمر شديد الصعوبة، وهم محقّون في ذلك.

3- في السياق ذاته، استخدم التقرير مصطلح اقتصاد السوق، مرّة واحدة، في معرض انتقاده ضياع الوعد الاجتماعي، في تلك التوليفة الغامضة الملتبسة..

أفهم الأمر على النحو التالي: يسود اقتصاد السوق في الأغلبية الساحقة من دول العالم، وبضمنها تلك التي تراجعت، بالقوة، عن إدخال بعض عناصره في اقتصادها، منتصف ستينات القرن الماضي، بعد أن أَدخلت صفة الاشتراكية إلى تسمية الجمهورية (التشيكوسلوفاكية)، معلنةً انتصار علاقاتها الإنتاجية الاجتماعية، مطلع الستينيات.

وإذا أمكن تلمّس سمات اقتصادية مشتركة بين أغلبية البلدان، حتى قبل استخدام مصطلح العولمة، فهي سمات اقتصاد سوقٍ عالمية تتوسع وتترابط، ولا يمكن لدولةٍ أن تعاقب نفسها بالانسحاب منه، ولكن عليها أن تدخله بوعيٍ وحرصٍ شديدين على مصالحها الوطنية، بالدرجة الأولى.

تستطيع سياسة متوازنة أن تضبط وتخفف الجوانب السلبية لاقتصاد السوق، وهو، بالتحديد، دور الدولة الذي ينبغي أن يستمر.

تتبع بعض الدول المتطورة ذات البرامج الاجتماعية الأكثر نضجاً، قواعد اقتصاد السوق.. دون تحميل كامل أعباء تلك البرامج، إلى المؤسسات الإنتاجية، مباشرةً، مما يؤثر سلباً على نسب النمو الاقتصادي..

ولكن الحزب نبّه إلى أن سياسة الانفتاح الاقتصادي بالشكل المتطّرف الذي طُبّقت فيه، ستؤثر، سلباً، على فعاليات اقتصادية وجوانب اجتماعية هامة، وهذا ما حدث، بالفعل..

4- أقترح تدقيق الفكرة التي تتحدث عن (تحالف البرجوازية والبيروقراطية).. هل هناك تحالف من هذا النوع؟ الفئات البرجوازية واسعة ومتنوعة وبعضها يستحق الدعم والتشجيع والاحترام. مثال ذلك: بعض الصناعيين في مجالي الدواء والأغذية وغيرهما، الذين ساهموا في تخفيف آثار الأزمة على المواطن، وبعضهم خسر الكثير جداً ولم يعد قادراً على النهوض من جديد. وعموماً فليس من الصواب تصنيف البرجوازية ضمن من احتكروا وسيطروا.. إلخ،

أما البيروقراطية فهي تضمّ شرائح متعددة وبعضها يعاني مثل بقية فئات الشعب.لا أظن أن التقرير تقصّد وضع جميع هؤلاء في سلّةٍ واحدة..

ولكن التركيز على بعض من جمعوا ثرواتهم خارج النشاط الإنتاجي الحقيقي، ومنهم رموز في السلطة، هو أمر صائب.

5- يقترح التقرير (تحويل عملية معالجة نتائج الأزمة إلى فرصة حقيقية لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني ومعالجة نقاط ضعفه.. إلخ).

تستند إعادة الهيكلة إلى مراجعة نقدية موضوعية لنتائج المناهج الاقتصادية الاجتماعية المطبّقة، في مراحل مختلفة، قبل الأزمة.

أ- لقد شعرنا بالرضا عند رؤية مشاريع البنية التحتية ومشاريع الري وبعض الصناعات والزراعات، تنتشر في مناطق مختلفة، مستوعبةً جزءاً هاماً من القوى البشرية المتدفقة إلى سوق العمل. لم نفكر بعمق في الجدوى الاقتصادية لمشاريعنا، ضمن نظرة بعيدة.

قدّم بعض اختصاصيينا المرموقين، على صفحات (النور)، صورةً موضوعيةً لمشاريع استصلاح أراضٍ، نفّذت في مناطقَ غير مناسبة، رفعت أكلافها، ونقداً للكيفية التي تستثمر بها ثروتنا المائية المحدودة، عند اختيار محاصيل زراعية تستهلك مياهنا، ثم تباع بشكلها الخام، دون معالجةٍ صناعية، تزيد في قيمتها المضافة.. والأمر ذاته يصحّ بنسبةٍ كبيرة في تصدير نفطنا الخام، دون تحويل كمية كافية منه إلى مشتقاتٍ تحتاجها سوقنا المحلية.

ب- تحلّينا بكثير من الحذر، تجاه الرساميل والتوظيفات الأجنبية، عقب نيلنا الاستقلال. كان الأمر مشروعاً، في حينه.

بيد أننا كدولة صغيرة ذات موارد محدودة وخبرات صناعية ضعيفة، أضعنا فرصاً هامة لتأسيس قدرات اقتصادية لا تحتاج إلى مواد أولية نفتقدها، بل تقانات حديثة عالية التطور.. كان السبيل المتاح هو تعاون يقظ، مع شركات أجنبية، لتوفير تلك التقانات والخبرات. اصبح هذا الخيار ملحّاً، عند انتقال العالم إلى عصر المعلومات والاتصالات، التي تحتاج عقولاً مبدعة، تستوعب التقدم العلمي الحاصل وتحسن توطينه في بلادنا. بيد أن بعض اقتصاديينا ومفكرينا عبّر، في وقت ليس بعيداً، عن حذره من الانفتاح على التقانة وعلى دخولنا عالم الاتصالات والانترنت، مصنّفاً كلّ ذلك ضمن الوسائل الإمبريالية لاستعادة سيطرتها علينا؟

يجب الاعتراف أن بعض الدول، الجارة أو البعيدة، تصرفت بفطنةٍ أكبر وتوجسٍ أقل، مما لدينا،تجاه مخاطر التعاون مع الآخرين،فحققت نسبَ نمو حقيقية، وحازت على حصصٍ في السوق العالمية للتقانة المتطورة..

6- يقدّم مشروع التقرير مقترحاته التي نشاركه بها، بشأن القطاع الخاص، إلى جانب قطاع الدولة الذي يضع المشروع خمس مهام جوهرية وصائبة، ليغدو ركيزةً أساسية في إعادة الإعمار ومتابعة النمو، كما كان حاله، منتصف الستينات، حين كان الفساد في أدنى مستوياته.

ربما نضيف إلى تلك المهام شرط تمكين هذا القطاع من ممارسة دوره في الظروف الواقعية للسوق (مؤيداً فكرة الصديق يونس صالح)، أي أنه يجب أن يعمل بعقلية مرنة، تنطلق من الجدوى الاقتصادية في كل مراحل نشاطه.. ومثل هذه الجدوى لا يوفّرها نظام التوظيف الحالي المرهق للمؤسسة، وهو نظام مترهل غير إنتاجي، والأمر ذاته يصحّ بشأن نظام الحوافز الذي فقد وظيفته الأساسية في رفع إنتاجية العمل، وهو جوهر التدابير الهادفة لتحسين أداء قطاع الدولة، مقدّماً سلعةً منافسة بجودتها وكلفتها.

يمكن تحقيق ذلك من خلال وضع قانون للعمل يقوم على مبدأ ربط الأجر بالإنتاج(المسوّق، في المستوى الصناعي، وليس المكدّس في المستودعات)، والتخلي، تدريجياً، عن نظام الترفيع الدوري للعاملين، بدوافع اجتماعية، مع تعويضهم الدوري عن آثار التضخم.

يجب أن تتحول أكثر المؤسسات الخدمية (لانقصد الصحة والتعليم وضمان الشيخوخة..)، تدريجياً، إلى نظام عمل، تؤمّن بموجبه جزءاً متزايداً من ميزانيتها، بفعالياتها التي يسدد المواطن أثمانها (مثال المديرية العامة للمصالح العقارية التي تعمل برسوم لا تذكر، وهي تحدّد وتحرر ملكيات المواطنين، حتى هؤلاء الذين يملكون أراضي واسعة وقصوراً فخمة).

7- يستهلك التضخم السكاني المستمر ،بمستوياتٍ خطيرة، أضعاف نسب النمو المحققة، ويضع الدولة أمام عجز دائم ومتزايد، في قدرتها على تحقيق برامجها الاجتماعية ووظائفها التربوية والصحية والثقافية والبيئية.. التي تتعرض للتراجع المستمر، وبخاصة: دعم أسعار بعض المواد الاستهلاكية الرئيسة. ينبغي أن تُطرح ،بجرأة أكبر، خطة للحدّ من زيادة السكان، بوصفها جزءاً أساساً من أي نهج اقتصادي اجتماعي وسياسي فعّال ومتكامل للنهوض الوطني.

8- لا أعتقد أن من حق/ واجب أي حزبٍ سياسي أن يضع (برامج لإعادة تأهيل وتثقيف للمجتمع)- البند 17 من المهام والتوجهات..) وهي ليست من صلاحية الحكومة أيضاً.

ينبغي التخلي عن هذا الدور الوصائي الذي ربما تسلل للتقرير من الزمن الذي كانت الأحزاب تنسب لنفسها مهام الطليعة وقيادة المجتمع. مع تقديري لقيادة الحزب التي تتحلى بصفات إنسانية، أبرزها: التواضع.

هذا لا يحدّ من دور الحزب الحالي وخصوصاً المستقبلي، بوصفه الحزب الوطني العلماني الأقدم.. ولأنه يحمل عبء هذا التاريخ، فهو الأقدر على حمل مسؤولية المشاركة الفاعلة في توسيع مواصفات الدولة العلمانية، بحيث تشمل مقولته العريقة: (الدين لله والوطن للجميع)، فضاءً أرحب لتعايش جميع المكونات، بعيداً عن التفضيلات القومية والإثنية وحتى الطبقية. لا تحتاج الدولة إلى توصيفٍ إضافي يعرّفها.. وعلى هذا النحو تكون وتتطور دولة جميع المواطنين.

وأعتقد أن مشروع التقرير (الفقرات التي تتحدث عن أوضاع العمال والفلاحين والشباب والنساء)، كما وثائق حزبية أخرى، ترى المحتوى المعاصر للنضال الاجتماعي الطبقي في الدفاع عن الطبقات والفئات المجتمعية الأضعف، دون المطالبة بأدوار سياسية تمييزية لها في قيادة الدولة والمجتمع.

الآن، ولفترة نتمنى أن لا تطول، يبقى الهمّ الأكبر للدولة والمجتمع هو تمكين المواطنين الأضعف، فعلاً،ممن أرغموا على مغادرة مدنهم وقراهم من العودة إليها وتوفير سبل العيش الكريم لهم. إنها مهمة السوريين قبل أن تكون مهمة دول الجوار أو العالم. نسدّ بذلك، أيضاً، الطريق على من يحاول أن يظهر تعاطفه الكاذب معهم من خلال مشاريع تهدد استقلالنا وسيادتنا الوطنية.

بقي علينا واجب شكر الرفاق في هيئة تحرير (النور) الذين يجدّون ويجتهدون، في ظروفٍ قاسية، لتقديم صورة جديدة من الإعلام الحزبي، إعلام منفتح واسع الصدر أمام النقد، يثق بالآخر لأنه يثق بنفسه، متحيّز، دون أي تطرّف، يؤمن بحقوق الآراء المختلفة التي تشترك في تجميع صورة الحقيقة الوطنية العلمانية السورية الجامعة.

العدد 1105 - 01/5/2024