سلاماً أيها العابرون!

لم يعد باستطاعتك أن تتلفت كثيراً حولك، ولا أن تعير نصف التفاتة لما تبقى ممن كانوا يحيطون بك، خوفاً من أن تلتفت فلا تجد أحداً سواك يعاند دوامة الرحيل، أن تذهب بك كما ذهبت بالآخرين، وأنت وحدك في تلك الوحشة.. الآثمة.. القاتمة.

 تستعيد قائمة الذين غادروك، فتضحك وتبكي في آن واحد.. لأنك وحدك من يحتفظ بتلك القائمة المروعة، وتتساءل بصمت حزين موجع: إذا كان كل واحد ممن غادروا الوطن، قد حمل بعضاً من ذلك الوطن في حقيبته، وغادر، فماذا تبقّى لنا من ذلك الوطن الجميل! البهّي! سوى تلك الحفنة من تلك القطع المتناثرة هنا، وهناك، تلملم بعضها البعض، وتنهض من وجع الدم والجراح، وتعيد تشكيل نفسها، وتآلفها المحبب، وتعمل على لمّ شملها من جديد، لتعيد صياغة وطن، أو تعيد صياغة الوطن، وفق ظروف غاشمة.. نتحداها، ونثبت لها، أنه، بالرغم من كل شيء، ومن ضراوة المأساة، وعمق الفاجعة، فإن الوطن باقٍ بقيمة اسمه، ورمزه، وهويته التي لا يمكن أن تتشكل بديلاً عنها هوية أخرى، لا تحمل قيمة أي شيء، ولا تؤسس لوطن بديل آخر، لا وهو وطن، ولا هو بديل، ما دام هناك حفنة من تراب تنتمي إلى الوطن الذي عشناه، وأحببناه، وظللنا نغوص فيه، ويوغل فينا، حتى كنا وإياه تلك الحفنة الخالدة، التي منها تنهض الأشياء بكينونتها المعافاة الجديدة، فتثبت للدنيا كلها أن كل شيء قد عاد كما كان وأجمل، فالحفنة عادت بامتدادها الكبير والشاسع الذي عهدناه، والطيور عادت بمغناها الجميل، والحور اتسع مداه الأعلى، والكباد، واللوز، والياسمين والأشجار، والنهار، لأن ساقية الدم شاركت الماء ري التراب!؟

لا يريدون منا إلا أن نحبر قصائدها بالدم، وأن نلون أغانينا بجمر الأرجوان القاني، وأن نستبدل بلون النهار الأبيض، ولون اللوز الأبيض، ولون زهر الربيع الأبيض، وأن نستبدل بكل ما يمت للبياض بصلة، اللون الأحمر، واللون الأسود، فالأحمر لون الدم، والأسود لون العتمة، وعباءتها القاتمة. ولأن الفرح حررنا من هذا منذ دهر، فإن أصابع الليل عادت تشدنا إليه بقسوة الارتداد والردة. ومع هذا، ومع خطر انزلاق ما لذلك السواد البعيد فضّلنا أن نغامر بالدم، من أجل نهار قادم أبيض مشوب بالأرجوان، ونكهة الجمر الملتهبة كخيوط الشمس المذهبة! ولو تعمقنا فيما عشناه، ونعيشه، لوجدنا، قبل وبعد، وبلا جدال في ذلك، أن فلسطين، وكل ما يمت لفعل مقاوم من أجلها، وكل ما يمت بصلة للتحرير والعودة وحقها، بل كل ما يمت بصلة للوطن، والوطني، والمواطنة، أشياء هي المقصودة بمسمّاها، وذاتها. لقد وصلنا الآن إلى مايشبه موت حق العودة إلى الأبد، بزعمهم، وبإيماننا فإن هذا الحق باقٍ ما بقي وراءه مطالب به، ولو كان ابن أيام، أو هو مايزال جنيناً في الرحم الذي يغذيه على ذلك؟! وإفراغ الوطن من أبنائه، وبنيه، ومن خيرة شبابه الذين يشكلون شبابه، وفتوته، وقوته، لقد نجحوا كثيراً في ذلك، ولكن اللحظة تلد ضدها في لحظة مباغتة تقلب موازين القوى، إلى ضدها وعكسها، والأيام مع إصرارنا على هذا كفيلة بذلك، ما دام الطفل الذي يشبه الوردة في لحظة، في لحظة عاصفة بعدها يصبح الجمرة التي يشتعل البركان من شرارتها المتوهجة بالألم والأمل! ما أحدَّ السلام على العابرين باتجاه الثرى والشاهدات، أولئك استودعناهم عند مليك لا تضيع ودائعه، وكبرنا في تلك الشاهدات التي خلفوها لنا عبرة للأجيال، وتذاكر عبور إلى الجولان وفلسطين، ذاك شيء لا شك فيه، وحتمية مؤكدة، رغم الضبابية القاتمة العابرة، فبعد الليل، مهما طال، لا بد من نهار!

والسلام الآخر، والموجع حد البكاء والكارثة، فإلى أولئك الذين غادرونا إلى الشمال البعيد، حيث البوصلة غدرت، وانحرفت، وخانت، وهي بالنسبة لنا، هي كذلك منذ الأزل، فمن المفترض اتجاهها المطلق نحو الجولان وفلسطين والأراضي المحتلة، وكم قوّم اعوجاجها، على الدوام دمٌ تدفق من أجل ذلك، لكن: (ذنب الكلب أعوج)، وما من قوة في الأرض تملك قدرة تقويمه عمّا ولد عليه، وكان! وهكذا، فمنّا أصابع ولدت مكسورة الإرادة والنخوة، تجد الصح فيما ولدت عليه من اعوجاج، وفيما جبلت عليه من خسة، ومكائد، وهوان لبسته، ورضيت به على هوان! وأما سلالة الطيور المهاجرة، وأما رياحين الروح الذين غادرونا على يأس، وحزن، وانكسار، فإليهم نوجه التحية: (سلاماً أيها العابرون)، حيث ترحلون، فالعين تمد الرموش إليكم تعبرونها إلى حيث محطات عابرة بانتظاركم، وزمن عابر مؤقت يرافقكم إلى حيث رحلة العبور الطارئة تقذفكم إلى الشمال النائي البعيد، وإلى حيث فرص الحياة أوسع بتصوراتكم.

تلك التصورات الشابة الغرة، والبريئة جداً، والتراب يلاحقكم حيث ترحلون، لأن نكهةً، ولدتم وعشتم وتنفستم هواءها الجنوبي الحار، ستظل تلاحقكم حتى تدفع بكم باتجاه العودة إلى ذلك الجنوب الرائع السليب!

على هذا فطرتم، على الرغم مما تتوهمون الآن أنه الشمال الرائع السعيد!؟

وأما نحن، فالسنديان باق هنا، والتين والزيتون، والحور والكباد، والصبار، والزعتر والزيزفون والصنوبر، وأشياء أخرى كثيرة غاصت عميقاً في التراب، في وجع التراب والذكريات، لا يمكن لقوة في الأرض أن تقتلعها، لأنها عميقة الجذور حدّ الوجع بين الشام وفلسطين، لم تتخذ لها وجهة أخرى غير ذلك، على هذا ولدت وعاشت وتموت وتبعث، وحتى ذلك سنظل نغني بناياتنا الحزينة: سلاماً أيها العابرون! وسلاماً أيها العائدون!

العدد 1105 - 01/5/2024