في حضرة المفكر الخلاق محمود أمين العالم

(الماركسية في الفنّ والحياة عامة لا تفرض، وإنما تكتشف، ولهذا فهي تتجدد بتجدد الفنّ والحياة… إنّ تبني   المنهج الماركسي هو الذي يفرض على النقد أنْ يتحرر من كل حكم مسبق على التذوق، وإلا كان منهجاً مثالياً، إنه اكتشاف لقوانين الحركة في الفكر والحياة بغير تعسف، فالحياة، كما تعلمنا الماركسية، أغنى من أيّ تعريف أو قالب مسبق، ولا حدّ لخصوبتها…).

إنّ الحديث عن المرجعية الفكرية اليسارية محمود أمين العالم، وتناول كتاباته وأفكاره ودراساته ومساهماته السياسية والفكرية والثقافية والنقدية والفلسفية.. تناولاً عمقياً وأفقياً، يحتاج، بلا مبالغة، إلى مئات الصفحات وهو جدير بها، وحسبي، في الذكرى الخامسة لرحيله أنْ أقف، بعد التمهيد ، عند محطتين اثنتين ، ولاسيما (في الثقافة المصرية).

في الثامن عشر من شهر شباط عام 1922 ولدتْ في حي (الدرب الأحمر) بالقاهرة قامة وطنية، قومية، سياسية، نضالية، فكرية، أدبية ونقدية شامخة، هي قامة محمود أمين العالم، وفي العاشر من شهر كانون الثاني عام 2009 رحلت هذه القامة الخضراء التي اختارت، بلا شبهة، الماركسية طريقاً ومنهجاً وفلسفة ومدرسة للحياة بكل تجلياتها ومفرداتها وحقولها المعرفية… رحلت بعدما قامت بدور بارز في ميدان النضال الوطني والسياسي، وبعدما ناهضت، بحزم وثبات وصلابة، الفكر الرجعي الظلامي على المستويين السياسي والفكري.وبعدما خاضت، بلا هوادة، معاركها الفكرية والنقدية والسياسية بموضوعية وعقلانية ورؤية عميقة واحترام المفكر الرصين، وأسهمت إسهاماً فعالا في التمهيد لتيار الواقعية الاشتراكية (الجديدة) في الأدب العربي عامة، وفي الأدب المصري خاصة، وبعدما عملت على تنمية الاتجاه الواقعي الجدلي في النقد الأدبي، رافضة الرؤية الشكلية لهذا النقد. رحلت هذه القامة الجدلية الإنسانية المضيئة بعدما تركت لنا تراثاً أدبياً ونقدياً وسياسياً وفكرياً وفلسفياً وثقافياً فذاً، تركت لنا: (أغنية الإنسان، الثقافة والثورة، معارك فكرية، الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر، فلسفة المصادفة، في الثقافة المصرية (بالاشتراك مع الدكتور عبد العظيم أنيس) تأملات في عالم نجيب محفوظ، البحث عن أوربا، هربرت ماركوز وفلسفة الطريق المسدود، الإنسان موقف، مواقف نقدية من التراث، ثلاثية الرفض والهزيمة… كما تركت لنا هذه القامة التي اتسمت بالكفاءة النقدية والأمانة العلمية والنزاهة الفكرية (قضايا فكرية) و (اليسار العربي) والكثير من المقالات والمراجعات والدراسات في مجلات مصرية وعربية وأجنبية، والكثير من المحاضرات والنقاشات الثقافية العربية والأوربية والحوارات المعمقة الشاملة.

تأملات في عالم نجيب محفوظ

يواكب محمود أمين العالم في (تأملات في عالم نجيب محفوظ -1970) رحلته النقدية عبر مواكبته للمراحل المتعددة المتطورة لعالم نجيب محفوظ الذي (تكاملت قدراته الفنية ورؤيته الاجتماعية والفلسفية…) وإنْ لم تكتمل بعد معالمه الأخيرة. إنّ (تأملات) العالم هي في جوهرها معايشة فنية وفكرية لأدب نجيب محفوظ في أشكاله المتعددة، وأعماقه الاجتماعية والفلسفية المختلفة، وقد خرج العالم بعد هذه المعايشة إلى نتيجة مفادها: إنّ الملامح الأساسية لعالم نجيب محفوظ قد اكتملت، وهذه النتيجة لاتعني، كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، الحكم على نجيب محفوظ بالسكون والجمود والمراوحة في المكان، ولكنها تعني أنّ عالم محفوظ عالم متجانس منذ أول نبضة في أول عمل حتى آخر أعماله التي لم تنشر، أو تكتب بعد، فهذا العالم يتحرك عبر محاور وثوابت وهياكل أساسية مهما تجددت ونمت وتطورت وتعمقت فكراً أو منهجاً أو أسلوباً فهي تحتضن رؤية إنسانية وفنية واحدة متكاملة رغم تطورها المتصل منذ البداية وحتى النهاية، فالمصادفات مثلاً كما يرى العالم نجدها في أعمال نجيب محفوظ منذ أولى رواياته حتى آخر قصصه ورواياته ومسرحياته، والإحساس بالزمن يتنفس في أعماله جميعاً من أولها إلى آخرها، (إحساس بتاريخ محدد، إحساس بزمن اجتماعي متحرك، إحساس بزمن إنساني عام، وإلى ذلك تبرز في عالم نجيب محفوظ الخصب الرحب أعماق النفس الفردية بكل متناقضاتها، وتصطدم هذه النفس الفردية بالمجتمع بكل متناقضاته، وتصطدم النفس والمجتمع مع العصر بكل متناقضاته، ويصطدم هذا كله بمصائر وأقدار أكبر… إنّه عالم واحد يزخر بالصدق والتناقض والاحتدام والحركة، لايتوقف أبداً بحثاً عن الحقيقة، حقيقة الإنسان، وبحثاً عن الحرية والكرامة والعدالة والمحبة والتقدم والسلام، ونضالاً شريفاً من أجل انتصارها… إنّه عالم واحد متصل الحلقات فنياً وفكرياً وفلسفياً.

في الثقافة المصرية

قام محمود أمين العالم بتأليف هذا الكتاب بالاشتراك مع الدكتور عبد العظيم أنيس (الذي لم يطق الحياة بعد رحيل صديق عمره، ورفيق دربه ورحلته… فالتحق به بعد خمسة أيام، وفارقنا فراقاً أبداً في الخامس عشر من شهر كانون الثاني عام 2009).

 خاض كلٌّ من (العالم وأنيس) عند صدور (في الثقافة المصرية) معركة فكرية ونقدية طاحنة مع عميد الأدب العربي (طه حسين) أدت إلى ترسيخ مفاهيم جديدة في النقد الأدبي العربي، وأفسحت للواقعية الاشتراكية (الجديدة ) التي ترتكز في (نظريتها) ومنطلقاتها ومعاييرها إلى الماركسية وفلسفتها ومنهجها العلمي المادي الجدلي، أفسحت لها مكاناً واسعاً مرموقاً في الحركة الثقافية عموماً، وفي الحركة النقدية العربية خصوصاً. لقد مضى أكثر من خمسين عاماً على إصدار (في الثقافة المصرية) ولا يزال هذا الكتاب الذي طبع أكثر من ثلاث مرات يحظى بالحضور والمرجعية والاحتفاء، وفي الوقت نفسه تعرّض، ولايزال يتعرّض حتى الآن لحملات عنيفة تحاول جاهدة التشهير به، ومن ثم الانقضاض على منطلقاته ومرتكزاته المنهجية والفلسفية والإيديولوجية والنيل منها… كما (حظي) باستعدادات نقدية، هنا وهناك، بهدف تسفيه أفكاره ورؤاه…

فمنذ العقد الأول من النصف الثاني من القرن العشرين تصدى للكتاب و(للعالم وأنيس) شخصياً، بعضٌ من أرباب الأقلام الكبار أمثال (طه حسين والعقاد)، وقد تجاوز هذا الأخير كل الحدود والخطوط، عندما قال عن (العالم وأنيس) في أحد حواراته: إنني لا أناقشهما، بل أضبطهما… هؤلاء الدعاة شبان شيوعيون، وإلافهاتني رأياً من آرائهم يختلف، ولوقليلاً، عمّا تتعرض له صحافة موسكو… إنّ خططهم هي نفس خطط الكرملين (..؟!).

أيدخل هذا الكلام للسيد الكبير (العقاد) في باب الردود العلمية، والنقاشات الفكرية الرصينة المحترمة..؟ أيدخل في باب الحوارات الثقافية والأدبية الموضوعية والعقلانية والإنسانية..؟ أم يدخل هذا الكلام، وما شابه، في باب القمع والمصادرة والتعريض والإرهاب الفكري والتحريض والأخبار الأمني والزج في السجون حتى الموت..؟ لندع الإجابات جانباً، ولنسأل: ما حقيقة الأمر ؟ ما جوهر المشكلة ؟ لماذا كل هذا الغضب والفزع..؟ ولماذا أقضّ (في الثقافة المصرية) مضجع (العقاد) وعصبته ومن لفّ لفّها ؟

يقول (العالم وأنيس) في مقدمة (في الثقافة المصرية): (.. في الحقيقة لم تكن القضية أساساً هي قضية شيوعية أو غير شيوعية، فما كنّا نخفي انتماءنا للفكر الماركسي قطّ، وإنّما كانت قضيتنا هي تحديد وتجديد مفاهيم النقد الأدبي العربي.. ).

هنا نقع على جوهر المشكلة، وهاهنا نتعرّف على الأسباب الحقيقية التي هزّت هؤلاء (الكبار) وأفزعتهم وأقضّت مضاجعهم… إنها قضية (تحديد وتجديد مفاهيم النقد الأدبي العربي…)، إنها الأفكار الجديدة، والرؤية الأدبية الجديدة، والصياغات والإبداعات المختلفة… إنها الدعوة إلى ثقافة مصرية وعربية نظيفة… إنها الدعوة إلى أدب واقعي… وإلى ميلاد زمن عربي جديد بديل…

أما الناقد المعاصر الدكتور (فيصل درّاج) فقد كتب مقالة طويلة نُشرت على صفحات إحدى المجلات الفلسطينية تحت عنوان: ((في الثقافة المصرية) في ضوء زمن مختلف). وأنا على قناعة تامة أنّ هذه المقالة الطويلة ترمي إلى هدف واحد، وتريد أن تقول شيئاً واحداً في نهاية المطاف، خلاصته:

إنّ كتاب (العالم وأنيس) (كتاب يحتجب وراء ستار النقد الأدبي، وينقد المجتمع الذي ينتج الستار والنقد والكتاب. لم يكن الكتاب مداخلة أكاديمية تضيف إلى الكتب الأكاديمية كتاباً جديداً، ولا مساهمة تقنية تفكك الكلمات وتعيد شملها في رشاقة (..؟) كان الكتاب مداخلة سياسية صريحة، ولأنه كذلك فقد كانت حركته هي حركة القوى الاجتماعية التي تحمله، فما إن انهزمتْ حتى ظلَّ من الكتاب عنوانه، أو ما يزيد بقليل، مع ذلك فشيء من الالتباس، أو التناقض، يلازم الكتاب، لقد كان هذا الكتاب النقدي يعيش حركته بين وجه وقناع، فيأخذ القناع ملامح النقد الأدبي، ويكون الوجه نقداً سياسياً… تؤكد قراءة الكتاب من جديد ضرورة عدم كتابته، كما كان، من جديد، إنه حاضر كي نبتعد عنه، بل نتحاشى منهجه…) (؟).

لقد أطاح، هاهنا، السيد (درّاج) الذي يكتب (في ضوء زمن مختلف)  بكتاب (في الثقافة المصرية) جملة وتفصيلاً، من ألفه حتى يائه، وإنْ ادعى غير ذلك، فالكتاب نقد سياسي يختبئ وراء النقد الأدبي المتهالك (..؟!). لم يقدم شيئاً، ولم يضف جديداً على الصعيد الأكاديمي… فانهزم مع هزيمة القوى الاجتماعية، حاملته ورافعته (؟) ولكن ألا ينطوي هذا الموقف الصريح للناقد الأكاديمي (درّاج) على موقف أيديولوجي آخر مغاير،عدائي ومناهض..؟ ألا يشي موقفه هذا بالشَّماتَة (بهزيمة) الكتاب والقوى الاجتماعية التي تحمله..؟ ألا يختبئ السيد (درّاج) وراء كلماته (الأكاديمية) كي يخدعنا، وكي ينال من المنهج الواقعي الاشتراكي الذي هو المقصود بالدرجة الأولى من وراء هذا الهجوم الشرس المضمر والمعلن..؟ أليس اتهام كل محاولة لتأكيد وتوضيح علاقة الأدب بالسياسة بـ (التبخيس) إنما هو بحدّ ذاته موقف أيديولوجي – كما يقول سعد الله ونوس – موقف برعت الثقافة الغربية الإمبريالية في استخدامه، وعبّأته في تنظيرات ومدراس بغية تجريد الأدب من كل فعالية، وتنحيته عن الصراعات الدائرة في المجتمع… وتكريس ما هو راهن، وتشويش حقائق الواقع وإمكانيات تبديله..؟.

في ختام هذه المقاربة لنا قولان:

الأول: إنّ المنهج الواقعي الاشتراكي باقٍ، لأنه منهج للحياة الإنسانية قبل كل شيء، ولأن القوى الاجتماعية، حاملته ورافعته، مستمرة في مسيرتها والمستقبل لها، وإنْ تعثرت وكبت وتصدعت هنا وهناك، في هذه المرحلة أو تلك في عصر سياسي منحط وفاسد من رأسه حتى قاعه…

والثاني: محمود أمين العالم مفكر ماركسي محمود، ومثقف سياسي أمين، وناقد باحث عالم.

العدد 1105 - 01/5/2024