استعادة الشاعر الأرجنتيني لويس بورخيس في ستين قصيدة مترجمة

ستون قصيدة للكاتب والشاعر الأرجنتيني لويس بورخيس (1899 – 1986م)، اختارها وترجمها الشاعر العراقي نصير فلّيح في كتاب (لويس بورخيس – 60 قصيدة)، الصادر حديثاً في العاصمة اللبنانية بيروت، عن (الدار العربية للعلوم)، وهي مناسبة جديدة لاستعادة عوالم ومناخات الأرجنتيني الأعمى الذي صار أحد كبار قرّاء العالم وليس كبار كتّابه فقط.

ذلك أن صاحب (صنعة الشعر) صنع من القراءة أسطورة تقارب أسطورة الكتابة، ويكاد كلٌ ما ألّفه أن يكون حصيلة قراءاته، فتحت كل سطرٍ كتبه، هناك استعارة لكاتب آخر أو إشارة لكتابٍ أو معلومة جُلبت من موسوعة.

في القصيدة الأولى التي تبدأ بـ(كلُّ من يعانق امرأة فهو آدم)، وتنتهي بـ(ليس ثمة شيءٌ قديم تحت الشمس/ كل شيء يحدث للمرة الأولى، ولكن بطريقة أبدية/ كل من يقرأ كلماتي يبتكرها)، ههنا نجد فكرة (أزلية الكتابة) في أزليات متتالية. ونرصد ما هو شخصي وخاص قليل أو ذائب في هذا الشعر الذي يمزج بطلاقة نادرة بين (الإلهام) وتدابير العقل والمخيلة.

وفي قصيدة بعنوان (شهرة)، وبعد أن يحصي الأفعال العادية التي قام بها، والأشياء التي رآها أو قرأها، ينتهي إلى القول: (لا شيء من هذه الأشياء استثنائي، ومع ذلك فقد جلبت لي شهرة لا أستطيع فهمها حتى اليوم).

وفي قصيدة (أشياء)، يمتدح الجمادات والأغراض التي (تخدمنا كعبيدٍ لا يتفوهون بكلمة)، والتي (سوف تبقى بعد تلاشينا/ ولن تعرف أبداً أننا قد ذهبنا).

يقول الشاعر: (فكر بالأشياء التي يُمكن أن تكون ولم تكنْ أبداً.. البحث في الأساطير الساكسونية الذي أغفل (بيده) كتابته… العمل الذي لا يمكن تصوره الذي ربما لمحهُ دانتي حالما صحح آخر أشعار الكوميديا.. التاريخ من دون غسقين: غسقُ الشوكران وغسق الصليب.. التاريخ دون وجه هيلين.. الإنسان دون العينين اللتين منحتانا القمر….أيام غيتسبرغ الثلاثة، انتصارُ الجنوب….الحب الذي لم نتقاسمه أبداً..  الإمبراطورية الواسعة التي مُنع الفايكنغ من تأسيسها.. الأرض دون العجلة ومن دون الوردة.. تقييمُ جون دون لشكسبير.. قرن اليونكورن الأبيض.. الطير الإيرلندي الخرافي الذي يحطُّ في مكانين في الوقت نفسه… الطفل الذي لم يكن لي أبداً). إن ما يميز شعرية صاحب (في مديح الظلمة) تلك المزاوجة بين الإشارات الميتافيزيقية والتلميحات الرمزية والاستبصارات النفسية التي تبحث عن المعنى عبر حركة الزمان والمكان معاً.

وقد كتب صاحب (الألف) شعراً وقصصاً وسرديات أسطورية ودراسات أدبية. وأنجز أنطولوجيات عديدة، ونقل مؤلفاتٍ مختلفة إلى الإسبانية، ولكنه طبع كل هذه الممارسات بخياله الموسوعي، وقدرته الهائلة على اختراع صلاتٍ أخّاذة بين قراءته ونصوصه، وتحويل الكتابة إلى وهمٍ وخلودٍ في آن واحد.

 

بورخيس .. بوح بلغة الموسيقا والعاطفة

عندما يتحدث صاحب (نمور الأحلام) عن تجربته الثقافية والإبداعية سواء في كتابته للقصص القصيرة في البداية أو كتابته للشعر فيما بعد، فإنه يبقى مخلصاً لكل الكتّاب والمؤلفين الذين عرف من خلالهم أن اللغة (موسيقا وعاطفة)، ومن ثم راحت عوالم الشعر تنكشف له.

في كتاب (صنعة الشعر) يكتب بورخيس عن نفسه في محاضرته السادسة والأخيرة (معتقد الشاعر)، فيقول: (لقد تكلمت اليوم عن عدة شعراء، ويؤسفني أن أقول لكم إنني في محاضرتي الأخيرة، سأتحدث عن شاعر أدنى شأناً، عن شاعر لم أقرأ أعماله قط ولكنني أعماله، سأتحدث عن نفسي وآمل أن تعذروني لهذا الانحدار المفاجئ الأقرب إلى المودة). وفي هذه المحاضرة يتحدث (بورخيس) عن موقفه من النظريات الشعرية فهو يعدّها (مجرد أدوات لكتابة القصيدة). ثم يبدأ بسرد ذكرياته كقارئ أولاً وكاتب تجرأ على الكتابة، هنا تعود به ذاكرته إلى نشأته الثقافية والأدبية الأولى فيتذكر (ألف ليلة وليلة) و(الأيام الأولى في كاليفورنيا)، و(الحياة على المسيسبي)، و(شرلوك هولمز)، وكذلك أشعار (كيتس) و(هاكلبري فن). ثم يقول: (سأقفز الآن عن السنين وسأذهب إلى جنيف. لقد كنت آنذاك شاباً تعساً جداً أفترض أن الشباب مولعون بالتعاسة).

هناك تعرف على (والت ويتمان) وقرأ ديوانه (أوراق العشب)، وهناك أيضاً اكتشف على حد تعبيره – كاتباً مختلفاً – هو (توماس كارلايل) الذي دفعه إلى دراسة اللغة الألمانية، ثم يعود إلى أيام شبابه متوقفاً عند كتّاب أدهشوه كثيراً فيذكر (إدغار ألن بو، وأوسكار وايلد، وستيفنسون، وكبلينغ، وبودلير، وروبيرت فروست).

وعن بداياته في الكتابة يقول صاحب (كتاب الرمال): (لقد بدأت على سبيل المثال مثل معظم الشباب بالاعتقاد أن الشعر الحر هو أسهل من الأشكال المقيدة إلى القواعد. وأنا اليوم شبه متأكد أن بيت الشعر الحر أصعب بكثير من الأشكال الموزونة والكلاسيكية التقليدية). ويضيف: (عندما بدأت الكتابة كنت أقول على الدوام لنفسي: إن أفكاري سطحية جداً).

وقبل أن يختم صاحب (الوردة العميقة) محاضرته يقول: (إذا كان لابد من توجيه نصيحة إلى كاتب ما (ولا أظن أن أحداً يحتاجها لأن كل واحد عليه أن يتعلم بنفسه)، فإنني أقول له ببساطة ما يلي، أدعوه إلى الإقلال قدر الإمكان من تنقيح عمله. لا أظن أن التنقيح والتهذيب يؤديان إلى تحسين، وتصل لحظة يكتشف فيها أحدنا إمكاناته).

نال لويس بورخيس في عام 1961م بالاشتراك مع الكاتب العالمي صمويل بيكيت جائزة الناشرين الدولية. ومنذ ذلك الحين اكتسب اعترافاً عالمياً، ونال عدداً كبيراً من الجوائز. وقد توفي لويس بورخيس في 14 حزيران / يونيو 1986م في العاصمة السويسرية جنيف.

العدد 1105 - 01/5/2024