التدريب على الرعب!

ما كنت أحسب يوماً أنّ ذلك العنوان الأثير (التدريب على الرعب) عنوان كتاب وضعه الروائي خيري الذهبي منذ زمن مضى سيكون أحد عنوانات مرحلتنا وما يمور بها من مشاهد ربما يعجز خيال السينما عن مقاربتها، في كتابه ذاك شُغل الذهبي بالحكايات المؤسسة على التاريخ القديم، لكنه لم يكتف به بل اشتق منه مرايا لحياتنا الاجتماعية المعاصرة، وما يجري للإنسان العربي، في مسكنه وملبسه وضروب حياته…، وقف مقارباً نظريات فكرية ونقدية، بأسلوب مشوق سلس، لكأنه وضع الوجه أمام المرآة ذلك الحين، وربما كل حين.

ماالذي هجس به الذهبي آنذاك وهو المسكون بتراث الحكايات من التاريخ إلى التاريخ ساخراً يتنقل بين أرصفتها ومفازاتها ومعللاً التواءاتها وانكساراتها، وهو المقيم في الحكاية الساخرة بإيقاعها وما سكت منها، أي بالصمت الموارب ما بين فواصلها، هكذا كانت رائعته التالية (فخ الأسماء) ما يتناص مع ما كتبه جوزيه ساراماغو في رواية كان اسمها (كل الأسماء) على مستوى الاسم فحسب.

لكن اللافت في مدلول الرعب ومجازاته التي كانت طي مادوّنه الذهبي يوماً، وهو المستشرف بفعل ما أدركه من حقائق التاريخ ماالذي يفعله بنا التاريخ، سيما حين يتكرر على نحو أو آخر، ولعل التاريخ كما ذهب شكسبير حينما يتكرر على شكل ملهاة سيصبح أكثر جدلاً لأنها مستمرة وتتولد منها لانهائية الأشكال، وهنا نقع على ماذهب إليه الروائي من انتباه للباطن الساخر الذي غلف يوميات سالفة وأصبحت بأثر رجعي تتناسخ لتولد ذلك الرعب، حديث المخيلة والناس، ليذهبوا إلى اللامكان، نفياً أو اختياراً، هروباً إلى أمام ربما كان هو الخلف على الأرجح.

السخرية في باطنها ليست موقفاً من العالم فحسب، بل هي موقف من الذات المتشظية المنفصلة عن (أناها) حينما تفقد مسافتها إلى الأشياء، فما يضحك هو ما يبكي فعلاً، وفي ثنائية الضحك والبكاء التي خبرها الناس في يومياتهم الهاربة من فصول الجحيم المستطير، ثمة ما يؤلم لكنه يبعث على الضحك، الضحك من نوع آخر، هو ضحك الحواس، فمثلاً أنت لا تقول بوسع حاجبيك أن يقولا، وأنت لا تكتب بوسع ارتعاشة الأصابع أن تقول، وبوسع حكاية إضافية عما جرى أن تعيد الحكاية الأصلية لرواة محترفين وساردين ضمنيين، ليجعلوا من -الضحك- على الأقل هنا أسلوباً حياتياً لمواجهة المفارقات اليومية، التي تبدو هي الأخرى أشبه بالحكايات المتصلة المنفصلة، بحثاً عن اللوحة الكاملة، وبمكر التاريخ بوسعنا الوقوف على التشابه والتماثل والقليل من الاختلاف، وهذا دأب من خبروا التاريخ في محكياته السالفة أن يولّدوا تلك الأشكال السردية وما تشي به من حالات تشكل الفضاء للسخرية في تجلياتها المركبة بفعل ثقل اليوميات وخفتها التي لا تحتمل.

بهذا المعنى إن تحرير الكلام من فكرة الأدب الساخر ليس الكلمة لذاتها التي تبعث على الضحك بقدر ما هو تحرير للمعنى الذي يضعنا في العلاقة ذاتها التي تبني موقفاً من أشياء معينة أو تفارقها، فما يشتق من السخرية هو ما تثيره دائماً في ذوات المتلقين عموماً من مواقف متباينة، لكنها في الحصيلة النهائية سوف تشي بشيء محدد، ما يمكن أن نسميه هنا (عولمة الضحك) ليس من الأقدار المتشابهة، لكنها الطريقة التي ستكون شكلاً خالصاً، مازال يغذي كل من يقف على حقيقة الأدب ومنه ما سمي بالأدب الساخر، ذلك ما صنعه على سبيل المثال عزيز نيسين وجورج جرداق  و(المعلم) زكريا تامر وغيرهم، وما يصنعه الواقع في مقابل كل أولئك.

كتب الأديب المصري الراحل محمود تيمور في واحدة من قصصه على لسان إحدى شخصياته: (خُلقت شفاهنا غليظة حتى تستوفي الضحك من الأقدار)، الأقدار.. الأقدار، هي إذاً من تصنع الحكايات.

العدد 1107 - 22/5/2024