أوراقي المبعثرة

عرفت الأوساط الأدبية هنادي الحصري شاعرة من خلال أربعة دواوين صدرت لها تحت عناوين: (حروف وردية، بوح الياسمين الدمشقي ـ رنيم النرجس ـ تنويعات من مقام الورد)، ومن خلال نشاطاتها الأدبية والاجتماعية. ويبدو أن صدور كتابها (أوراق مبعثرة) لم يكن تحولاً من عالم الشعر إلى دنيا الكتابة النثرية، بحكم أن النثر أطوع على تناول الشؤون الاجتماعية، وإنما كانت محاولتها نشر خواطرها التي دونتها نثراً في (أوراقي المبعثرة) تعكس رغبتها في تغيير صور العلاقات الإنسانية المتردية التي أفرزتها العولمة، ونتائجها المدمرة لروح الإنسان العربي وقيمه الموروثة، وما يعانيه من الضياع.

وتحت عنوان (لنغسل القلوب حتى الوجود) يستوقف الكاتبة درس في كتاب القراءة للصف الأول الابتدائي جاء فيه: أستيقظ باكراً، أرتب سريري، أغسل وجهي صباحاً، فيقفز إلى ذهنها خاطر لا تلتف إليه كتب التربية، وتقترح أن يضاف إلى هذه التوجيهات التي تقدم للطفل (أغسل قلبي كل مساء) فينعكس هذا التوجيه إيجابياً على صحتهم النفسية، فيتعاملون مع كراهية الآخرين بالحب والغفران، لا لأننا لا نستطيع مواجهتهم بل تكمن مشكلتنا أننا نعدّ أنفسنا على صواب الآخرين على خطأ، وهو مبعث الخلاف في كثير من الزيجات.

وتضيف في خاطرة عنوانها (كمشة ياسمين) فتقول: (إن كثيراً من العثرات تواجهنا، ونحن لا ننفك نردد: الكل يهاجمنا، الكل لا يفهمنا، الكل مختلف معنا، وهو أمر طبيعي جداً نتيجة تفاعلنا داخل هذا الوجود الجمعي، وهو ما ينطبق على حال الزوج والزوجة في العلاقات الأسرية).

وترى الكاتبة أن الاختلاف في العلاقات ضروري لأنه يغني حياتنا، ويفتح عوالمنا على نوافذ الآخر، فنغتني به ويغتني بنا، بتقريب وجهات النظر، فالمنارة المنزلية تشكو الوحدة.

ولكن كيف نقبل الآخر ورؤيته؟

(نقبل الآخر لأننا نحترم أنفسنا، واحترامنا لأنفسنا يبرز أحقية الآخر باحترام نفسه)، ولو طبّق الزوجان هذا المبدأ لتمكنا من حل كثير من مشكلاتهما العالقة.

وتحمّل الكاتبة في إطار العلاقة الزوجية مسؤولية أحد ركنيها، وهما الأب والأم، ارتكاب جريمة القتل المعنوي للآخر بتصرفات يفرضها الجهل أو الطمع أو الرعونة. تقول: (ماذا عن الزوجة التي تدفع زوجها لقبول الرشوة دون أن تدرك أن الحياة ليست ملابس وأدوات زينة وتحفاً ومجوهرات، بل هي أرحب وأجمل من كل هذه الوهاد الواسعة).

وتحت عنوان: (قساة دون أن ندري) تتناول الكاتبة ظاهرة العنف في شكل الاعتداء أو الضرب والأذى الجسدي، فترى أن أفضل تعريف لهذه الظاهرة يتمثل في أساليب التعبير عنها، وهو ما يقع أحياناً بين الزوجين ـ وتستنج أن غياب الحب بشتى أنواعه في الحياة هو عنف معنوي أقسى من العنف الجسدي، وتشير البحوث إلى أنه كلما ازداد الرجل والمرأة نضوجاً وثقة بالنفس قلَّ تحرجهما من إظهار الحب والحنان، وشتى أنواع العواطف الكامنة، وحينئذ يعيان الحب بآفاقه الحقيقية وهي التبادل، فالتبادل صفة لازبة للحب، لأن الحب ليس عاطفة وانفعالاً وتأثراً وجدانياً، بل هو فعل تضحية وعطاء وتأكيد لثقة الإنسان بوجوده.

وتحت عنوان: (تعالوا نصنع الفرح) تشير الكاتبة إلى ذبول الفرح في حياتنا (وهو ما ينطبق على حياة الزوجين واستسلامهما للملل والرتابة والتشاؤم مع مرور الزمن)، وترى أن السعادة لا تقاس بما نملك، لأن ما نملكه يمتلكنا، بل السعادة من صنع أفكارنا.

ومن مقومات الزواج المستقر لدى الكاتبة الشعور بالاطمئنان والأمان، تقول: (ليس صحيحاً ما يتردد أن المرأة فقط هي التي تبحث عن الأمان في نخيل رجل، فالطب النفسي يرى أن الرجل أيضاً في سعيه الدائم نحو الأنثى، يبحث عن زوجة وأسرة تعزز الأنا لديه، فيشعر بأمان وثقة كبيرين).

وتتناول ظاهرة (الخواء الروحي) الذي يسم حياة الإنسان المعاصرة، وفقدان طعم الحياة لديه في قلب فوضوية حياة العصر، وما قدمته المدنية والعولمة من نزعة استهلاكية تروج لها لاهثة مرهونة بالأقسام الربوية، وتحول الأب إلى آلة لجلب المال، ويا ليت الأبناء سعداء بهذا الرفاء، فهم يتذمرون إذ يقارنون حالهم بحال زملائهم الذين يملكون فوراً الصراعات الوافدة والملائمة التبدل بما يقدمه السوق، ما يدفع الأسرة إلى أن تنفق أكثر مما تدخر، فيلجأ الفرد إلى الغش والسرقة والرشوة، وبهذا نكون قد خسرنا أرواحنا وربحنا القشور، ولم يقدم لنا التسوق سوى مزيد من الخواء الروحي والركض اللاهث والارتهان.

وتطمح المجتمعات العربية اليوم إلى ديمقراطية ليبرالية تعلي حقوق الإنسان العالمية مشرعة لها بصيحات عنترية، وتسوّغ مقولة (والدية الذات) أي حرية الأجيال في الاعتماد على ذاتها في صنع قيمها، والثورة على الأطر الاجتماعية التي تقيدها (لعل مشكلتنا الحقيقية تكمن في البنية الذهنية، والتكوينات الصعبة الزوال التي أضاعت بوصلة المنطق، فباتت ثقافة الخوف تلازمنا، خوف الخروج قيد أنملة عما يتوافق عليه الجميع، على الرغم من أننا لا نتوافق معه، فنحن بمرتبة التابع لكل ما هو سائد، نعيش بوجهين ونتشظى بين ما نريد، وما يجب علينا أن نريده، أنا أكره الحالة التأطيرية والتفكير الماضوي.

وتعلق الكاتبة الأمل على قيام حراك ثقافي ديني يشق السائد، ويخترق حاجز الصمت.

وتلح الكاتبة على ضرورة فهم الدين الإسلامي في جوهره قبل المغامرة بتطبيق مبادئه في شؤون الحياة من خلال فهمه فهماً مغلوطاً أو منقوصاً فيه، ومع ذلك فإن الكاتبة تطالب أن تنال المرأة والرجل في حياتهما المشتركة على الصعيد الأسري والاجتماعي حرية الحلم وحقهما المشروع في البحث عن حرية ذاتية تتجاوز المبادئ والأعراف والأطر العقلية التي من شأنها أن تقيد الحرية، وتدفع إلى تقييد حرية الفرد.

تظل أوراق الكاتبة هنادي الحصري المبعثرة دعوة أمل وتفاؤل للتغيير الذي يعيد إلى الحياة ألقها المسروق، ويجدد الدم في شرايينها التي جفت في عصرنا، إنها صيحة أنثى تعاني، وليس أقدر من المرأة على تجاوز المحن ودفع اليأس والتشبث بالأمل، لأنها راعية الحياة والمكلفة بحكم دورها البيولوجي بمسؤولية تجدد الجنس البشري والعمل على استمراره واستقراره.

العدد 1105 - 01/5/2024