زمن الأتاوات وخطف الجوهرة الأثمن من عقد الاقتصاد

مشهد الاقتصاد السوري، مثير للشفقة، قبل التساؤل. يعطي انطباعات باليأس، قبل غلبة التفاؤل الذي مازلنا محكومين به. يرسخ التراجع في الأداء، قبل وضع خطط النهوض. اقتصاد تغلب عليه التناقضات الحادة، وتغيب عنه الاستراتيجيات، ويفتقد إلى النهج. لا تسميات واضحة له، سكّته متعرجة، يطبق حالة هجينة من الفكر الاقتصادي المتبع. محكوم بتوجيهات تبدو معظم الأحايين بعيدة عن المواطن ومصلحته، ولا تدنو من البوصلة التي يجب أن يحتكم إليها. أي اقتصاد قادر على الاستمرار، ولايوجد فيه موارد، وسلعه مستوردة، وإنتاجه متوقف؟ في ظل واقع كهذا يصبح مجرد البقاء حالة مثلى، قدرة عجيبة على الحياة، لاتهمنا طريقة الغرق الكبيرة، بقدر مدى القدرة على التنفس تحت الماء.

إننا نعيش زمن الأتاوات، والمناطقية، والاستحواذ، زمناً شعاره السرقة والنهب، اختزالاً (التعفيش). زمن الفوضى التي أحالت القوانين والأخلاقيات إلى التقاعد، وشرعنت قوانين الغاب. حتى الغابات لها قوانين رحمة وتراحم، تنظر بالعطف إلى الضعفاء والمهمشين، إلا قوانين البشر قوامها الاستغلال، بدليل نضال الشعوب لتبديلها وكسر القيود. في زمن شح الموارد، لاتوجد منشأة واحدة سياحية تحوّل رسم الإنفاق الاستهلاكي إلى خزانة الدولة كما يجب، فيصبح الرسم أتاوة، يُرغم المواطن على تسديد لجيوب أصحاب المنشآت. وهنا ليس المهم من هي الجهة المقصرة في متابعة التحصيل، لأنه لايوجد تحصيل. هي إذاً الأتاوة بعينها، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أي عودة إلى الماضي غير الجميل، وإلى مراحل سحيقة من الابتزاز العلني، ونسف جهود ونضالات طويلة من أجل العدالة والمساواة. بالمسطرة ذاتها، يمكن القياس على الممارسات المخلة بالقانون، ما يُفرض على ناقلات البضائع والسلع من أتاوات تحت مسميات مختلفة، أكبر دليل على عقم الحالة التي يقف عندها العمل التجاري. هذا الواقع من المناطقية والاستحواذ، يهدد اقتصاداً قوياً ومتيناً، ويخلخل بنيانه، فما بالنا واقتصادنا تحت رحمة الدمار منذ ما يتجاوز 42 شهراً متتالياً؟ ربما من مقولات هذا الزمن غير الجميل، في هذا السياق، مقولة »ادفع بالتي هي أحسن«، براءة اختراع محلية بامتياز، خلقها عدد لايستهان بهم ممن أوكلوا لأنفسهم قضية الوقوف على الطرقات (حواجز مختلفة). كيف يمكن خفض سعر مادة استهلاكية، وهي تقطع الحواجز الجمركية، وتسدد التعرفة المفروضة عليها، من شارع إلى آخر، ومن حي إلى آخر؟ كيف سقطت الحدود الإدارية بين الدول، وفُتحت المعابر، وصُفِّرت الرسوم الجمركية، بينما في الداخل أصبحت الرسوم غير القانونية والأتاوات واقعاً راهناً؟ وأي واقع لايقدم خدمة للجماهير الواسعة، هو حالة من الخطأ، تجيير للقانون، كسب غير مشروع، واقع فرضته القلة المتحكمة بمقدرات البلاد والعباد.

ذات يوم، جرت محاولات الانتقال غير المخطط وغير المدروس، من الاقتصاد الاشتراكي إلى اقتصاد السوق الاجتماعي،  وكانت العقبة الكأداء في وجه هذا الانتقال هي تعدد وجهات النظر في طرائق الانتقال، لكن من كان يقتنع أن لدينا اقتصاداً اشتراكياً آنذاك؟ ومن كان لديه القناعة أننا ذاهبون إلى اقتصاد السوق الاجتماعي فعلاً؟ ذاك التأرجح القاتل بين نهجين، أفشل الانتقال الآمن، وأجهض نقاط القوة المنتظرة من النهج العتيد. فكانت العملية ناقصة، وعبرنا بنصف اقتصاد، وبنصف تسمية، فولدت كل هذه التشوهات. كانت أحلاماً وردية أن يترك العاملون في سوق الحرامية، ومحتكرو أسواق الهال، ومستحوذو صفقات الاقتصاد وتجارته، أن يتركوا عملية الانتقال تسير بيسر وسهولة، وظهرت قوى أعداء الإصلاح الخفية. هل كنا ننتظر أن يتركوا أرباحهم الطائلة تذهب لغيرهم أمام مرأى من عيونهم؟ هل كان من الصعب علينا إحصاء محتكري قطاعات الاتصالات والسكر والأرز والألبسة؟ هل كان مستحيلاً اكتشاف من يستحوذ على قطاع النقل واستيراد السيارات؟ هل كان صعباً التعرف على من يقف كالطود في وجه تنشيط المشاريع الصغيرة، وعدم تمويل المصارف لرواد الأعمال؟ بلامجاملة، كنا نعرف كل هؤلاء الذين خدعونا، واستطاعوا الالتفاف على اقتصادنا، وتبديد العبارات الجميلة التي صيغت من أجل مستقبل آمن لأبناء سورية. هؤلاء الآن هم من يقودون زمن الاستحواذ والمناطقية والأتاوات، ويرتدون (الكرافات) الأنيقة التي لم تُصنَّع في الشيخ نجار أو عدرا الصناعية، ويجلسون على كراس لم تدخل إليها مهارة العامل السوري، ولديهم مستشارون لايتحدثون بلغة الضاد. اقتصاد سورية ما قبل الأزمة، كان مغلقاً وموصوداً أمام الآخرين، الذين كانوا يعانون من فوبيا الاقتصاد السوري، الآن الفوبيا اتسعت، وازدادت عمقاً، بعد انتشار حكام كثر لديهم مهارة عليا بإصدار الفتاوى بحق اقتصادنا، لسرقة الجوهرة الأثمن في عقده.

العدد 1105 - 01/5/2024