الخطاب الثقافي أمام مسؤولياته

لن ندخل في إرباكات تعريف الثقافة التي تجاوزت تعريفاتها حدود مئتي تعريف، لكننا سنحتمي بأبسط وأعقد تعريف لها، وهو: الثقافة هي ما يبقى لديك عندما تنسى كل ما تعلمته.. وهذا يعني أنها جوهر الشخصية الإنسانية، وماهيتها، القابلة للتبدل والتغير الدائمين، بحكم التحصيل والخبرة العملية والنظرية المباشرة وغير المباشرة.

أما خطاب الثقافة، فلا يمكن أن يكون إلا وطنياً إنسانياً، يقوم على أساس احترام التعدد والتنوع والمغايرة، والتفاعل الخلاق بين مكوناتها، ومواءمة التغيرات المحلية والعالمية: (فكِّرْ عالمياً وتصرف محلياً).

خطاب الثقافة اليوم في المحنة التي نمر بها يتحدد بالشروط التي تقود البلاد للخروج من أزمتها المركبة والمعقدة، التي يتشابك فيها المحلي بالإقليمي بالعالمي، والتي على ضوء حلها تتحدد ملامح نظام عالمي جديد (متعدد الأقطاب) ينهي جبروت القطب الواحد وتسلطه تحت ما يسمى العولمة.

جوهر المسألة اليوم هو وقف نزيف الدماء والعودة إلى حالة الاستقرار المتحرك، وضمان أمن الوطن من خطر عدوان خارجي، وأمن المواطن، وحقه في حياة حرة كريمة، تلبي شرطه الإنساني، فدون وقف كرة الدماء من الصعب صياغة خطاب ثقافي حضاري يبنى على الموروث التاريخي الإيجابي في الثقافة العربية. يمهد ويدفع باتجاه الخروج من الأزمة.. لكن استمرار الوضع المعقد والمتداخل، والعقبات المحبطة للوصول إلى حل سريع وناجز لا يلغي بل يستدعي التركيز على ثوابت ثقافية تعتمدها الجهات المسؤولة والشخصيات الاجتماعية والدينية ورجال الثقافة والأدب وغيرهم من القوى الفاعلة اجتماعياً بتوجيه نداء موحد للتعقل والحكمة، لمواجهة (المسألة السورية). ولمعالجة هذه الموضوعة لا بد من معرفة أسبابها وحل العقد المتعلقة بها، داخلياً وخارجياً، وهذا يتطلب الارتفاع إلى مستوى المسؤولية الوطنية العليا، والحفاظ على وحدة الوطن وصيانة مقومات الدولة، وتمتين عرى التعايش المشترك وترسيخ أسسه، المهددة بالخطر.

الوحدة الوطنية تقوم على ركائز لا بد من توفرها، فإذا اهتزت هذه الركائز تضعضع البنيان وأصبح عرضة للتهدم، وهنا لا بد من إعلاء ثقافة المواطنة التي لا تميز بين أبناء الوطن الواحد، وتجعلهم على مسافة واحدة أمام القانون، وتفسح المجال لهم للمشاركة الفعالة في القرارات التي تتعلق بمستقبل الوطن ومصير أبنائه، ولا يتسنى ذلك إلا بتأكيد:

1ـ القواسم المشتركة بين أبناء الوطن الواحد، التي عُمِّدت بالدماء، أثناء المعارك الكبرى، والمواجهات الحاسمة، هذه القواسم التي علينا جميعاً أن نوسع دوائرها بعيداً عن ضيق الأفق والتحيزات المسبقة، خدمة للوطن وأمانة له، ووفاء لدماء شهدائه.

2ـ الترفع عن المهاترات وإثارة الأحقاد والضغائن، وكل ما يهيج ويستثير الغرائز، ويحيي ما ترسب من مخلفات الماضي البغيض المتكدسة منذ قرون بسبب ضعف التقاليد الديمقراطية والتخلف الحضاري، الذي يراد له أن يستطيل ويمتد بإغلاق الآفاق أمام أي تقدم حقيقي وفعلي يواكب منجزات العصر، من انتصار للعلم، ومواجهة للخرافة، والفكر الغيبي الظلامي، المتستر بعباءة الدين، راسخ الجذور في نفوس مجتمعنا السوري، الدين الذي علينا أن نبعث قيمه الحقة في التعايش والتسامح والمحبة ونبذ ثقافة العنف، ومظاهره، والعمل لما فيه خير الإنسان ومعافاة الوطن.

3ـ الاعتراف بإمكان الخطأ، في النظرية والممارسة، وعدم امتلاك الحقيقة من أي طرف من أطراف المواجهة الدامية، والاستعداد لتقديم التنازلات، والتقدم خطوة من هنا وخطوة من هناك، وصولاً إلى الهدف الذي عليه أن يحكم الجميع، وهو وحدة الوطن وضمان أمنه.

ما أحوجنا اليوم إلى خطاب ثقافي يؤسس على المشترك بيننا، يغني التنوع، ويخصب التعدد، يقوم على مبدأ التسامح والمحبة، وتشجيع وتنمية ثقافة الاختلاف والمغايرة، ومبدأ الحوار والابتعاد قدر الإمكان عن التماثل والتنميط، وتشجيع التفرد والتمايز، والتخلص من سياسات الإلغاء والإقصاء، وإقرار مبدأ الوحدة في التنوع، وعدم ترويج مفهوم الغالب والمغلوب، فالربح مشترك والخسارة واحدة، عندما يكون الوطن ساحة للصراع.

العدد 1105 - 01/5/2024