الدراما بين: الثقافة الجادة وثقافة الحافة

لعل الدراما هي أهم الأفعال الإبداعية، أو فعلها هو الأكثر تأثيراً، والأعمق توضيحاً للمناخ المجتمعي السائد، إذ ترسم تفاصيل ذاك المناخ بعين كاميرا مدربة مجربة وتغوص في صميم المجتمع حدثاً ورؤية يُستشَف من خلالهما طبيعة ذلك المجتمع، وعلاقته ببيئية المكان والزمان كأهم عنصرين فاعلين في بنية وحركية تطور سلوكيات الأفراد والشخصيات من خلال تطور تلك البنية، ومواكبتها للتطور الإنساني ككل، ومدى نمو ذلك التطور من خلال ما تعكسه الرؤية الثقافية لذلك، وعلى سبيل المثال ما حدث في شؤون وشجون الشعر والرواية والمسرح، وانعكاس ذلك على ساحة الفنون والآداب ككل. وتشكل الدراما دعامة وركيزة أساسية للفعل الإبداعي، إذ تتوغل عميقاً وبعيداً في جوهريات تلك الإبداعات شعراً، ورواية، ومسرحاً، ثم تُحوِّل من منظورها الفعل الإبداعي الصامت إلى فعل إبداعي متحرك وناطق، من خلال سناريوهات سينمائية، أو تلفزيونية تجعل من النص المقروء نصاً يشاهده الملايين التي ربما عزفت غالبيتها عن قراءة الكتب والإنتاج الكتابي، لتعوض نقص القراءة باستزادة رؤيتها للكتب والمنتج الكلامي بتلك الإحالات التي كانت تقرأ، ثم تحولت إلى دراما تُبثُّ وتُشاهد.

ومع أن المكتبات العربية تزخر بالروائع والإبداعات الفذة، إلا أن الفعل الدرامي انحاز للشارع وكتاب الرصيف لينتج نوعاً من الدراما الهابطة للاستهلاك الآني، ربما هذا خلل طارئ تصلحه الأيام وشخصيات واعية ترى الإبداع كله الشعر في ورطة: تلك حقيقة موجعة جداً، كتابات استهلاكية لا تمت إلى الشعر بصلة، لا من قريب ولا من بعيد. وكذا حال الرواية والقصة والمسرح، وكذا حال دراما استهلاكية استسهلت تقديم مظاهر الأشياء، وبلاهة المواضيع للمشاهدين، استخفافاً بالذوق المعمق للمشاهد الفذ كالقارئ الفذ. واختصاراً للدخول في تفاصيل الإبداع إلى الإمتاع الطارئ الذي يأتي مع الريح العابرة، ويذهب معها!

الوباء المادي، وجشع الاستهلاك العابر، وسوء الظن بالمشاهدين، وعبثية الفعل الثقافي ككل، واتساع الهوة بين المطلوب والمرغوب، هذه الإشكالات كلها أدت إلى الاستهانة بفعل الأدب باتساع فنونه، وعمق القراءة فيه، والذهاب إلى مدن أرصفة تكتظ بالبلاهات، وسيناريوهات، ومشاهدات تنقل للمشاهد/ القارئ الفذ، رغم كل شيء تغوص في كينونة مجتمعات طارئة محتملة لا تمت بصلة للروح الأصيلة المتأصلة في ضمير الأمة، أمة الحضارة، والشعر، والتاريخ، والثقافة، وأدبيات الحياة الراقية، من حراك المناخ الشعبي للحياة الأفضل والسلوكيات المتوارثة عبر الأجيال قيمة واعتباراً خالدين إلى دوحة الفكر والأدب والمناخ المعرفي الزاخر بالروائع.

لدينا على امتداد تاريخ الكتابة والإنتاج ما يثير ويدهش للأبد، ولدينا قصص وروايات وروائع تتحول إلى سيناريوهات خالدة لو عكسنا اتجاهات قطارات الإبداع من سككها الخاطئة الساذجة إلى سككها الرائعة الصحيحة، وإذا بقينا على هذا الحال، وعلى ما نحن عليه، فإننا سنصل إلى لحظة، عبثية مارقة تضعنا في خانة الهوامش فلا نحن نجيد القراءة، ولا نحن نجيد المشاهدة لأنهم أغرقونا بالبلاهات إلى حد الوجع والكارثة.

العدد 1105 - 01/5/2024