للكلمة رائحة.. وللمعنى طعم..

مثلما هنالك روائح للأشياء والأحياء، كذلك لبعض الكلمات روائح وطعوم، منها الحلو، ومنها الحامض، منها المر والعلقم، ومنها المتعفن، ومنها كرائحة جسد الأزهار، وياسمين الحدائق .

ومثلما يحفظ الملح الطعام، تحفظ الكلمات الأفكار وتمنعها من الموت، فالكلمة جسد الفكرة، لا تتجسد إلا من خلالها، ولا تكون إلا بها، فلا حياة للأفكار من دون كلمات تحفظها، فهي الجذور والجذع والغصن والأوراق، ومن دون هذه الأقسام والأجزاء لا يمكن أن تخرج الثمار. وليست الشجرة سوى وسيلة لخروج الأزهار والثمار، كذلك هي الكلمات وسيلة لا بد منها لحمل المعاني وتجسيد الأفكار.

إن الكلمات العظيمة، لا بد أن تكون قد كتبت بإحساس عظيم، فهي محملة برسائل، ظاهرة وباطنة، وعلى قدر ثقافة المرء تفهم وتفسر، وما أقل الذين يصلون إلى النبع، وما أكثر الذين يتجمعون مصفقين للسواقي الضحلة، وللمستنقعات المسكونة بالضفادع والحشرات.

ولا قيمة ولا معنى لكلمة كبيرة وعظيمة إذا بقيت محجوزة ومحاصرة داخل قضبان العقل وغرف القلب، وهل هنالك من فائدة لأجساد الطيور من دون أجنحة، ولمجرى لا تجري فيه المياه، ولقمّة لا تسكنها النسور والثلوج؟!

إن كلماتنا تحددنا كما نحددها، فليس من ثوبه يعرف الحكيم، ولا من لحيته يعرف الفيلسوف، بل من كلامه وعمله.

(ويوزن الإنسان بكلماته، ويقوّم بفعله. وأفضل الكلام ما كان معناه كثيراً، وكلماته قليلة، فقلة الكلام دليل على الاقتدار والإصابة، وجودة الكلام في الاختصار، إذ من التطويل كلّت الهمم). إن الكلمة يصبح لها معنى وقيمة إذا وقعت في مكانها وبين أهلها، مثلها مثل المطر يصبح نافعاً إذا هطل فوق التراب والأراضي العطشى، وتنعدم فائدته إذا وقع على الصخور وأسفلت الشوارع.

كلماتنا ثمار قلوبنا وأزهار أرواحنا، لكن أحياناً تكون الثمرة كبيرة فلا نجد فيها طعماً أو رائحة، وأحياناً أخرى تكون صغيرة متواضعة لكنها كرمّانة مليئة بطعم التراب المبلول بعطر المطر ورائحة الشمس.

(هنالك بعض السمك، وهو كسائر الأسماك، ولكن فيه قوة كهربائية عجبية، كذلك الكلام البليغ، الموحي والدال، المكتنز بالرموز والإشارات.. فهو كلام كسائر الكلام، ولكن فيه قوة كهربائية وصلت إليه من ثورة الروح، وفورة الوجدان).

إن النحلة لا يمكن أن تسمى نحلة إذا لم تحمل في طرفها إبرة، فهي تعطي العسل من جهة، وتلدغ من يضايقها من جهة أخرى.. وهكذا هي الكلمات الفاعلة، الباقية، المحصّنة والمحروسة بمعانيها ورموزها ودلالاتها: طعمها لذيذ ومفيد، لكنها إذا وقعت على من لا يعرف الاستفادة منها واستثمارها لدغته من حيث لا يدري وسببت له أوجاعاً في الجلد وألماً في المعدة.

ومن يتألم بسبب قلبه ورأسه يختلف عن ذاك الذي يتوجع من معدته وسطح جلده، والكلام لا يسبب أوجاعاً ويؤثر في الجميع بالدرجة نفسها،، فهناك من يتأثر به ويتوجع لسماعه، وهناك من يسعد به ويفرح بسماعه.

وإن الكلمات المبدعة والعظيمة كالعطر النادر، ستترك آثارها مهما طال بها الزمن.

العدد 1105 - 01/5/2024