الأساسي والثانوي في السياسة

إن خبرات الآخرين الناجحة التي راكمتها التجارب والمبادرات والأعمال الجماعية في حقول السياسة والتنظيم وتقديم الكادرات المؤهلة إلى مواقع المسؤولية هي معين يغني الباحث والسياسي ورجل الدولة، ومصدر خصب للشيوعيين يمكّنهم من تدقيق أعمالهم وتطويرها.

ومن يعد إلى أوراق لينين الأخيرة ومحاضراته ومقالاته ورسائله التي كتبها بين عامي 1920و 1923 يجد إجابات وإشارات ذكية إلى مسائل معقدة واجهت الشيوعيين والماركسين عامة خلال سبعة عقود من القرن المنصرم. وما تزال راهنة تنتصب أمام أي حزب شيوعي جدي، يسعى إلى تفعيل دوره في خضم التغيرات المتسارعة التي تعصف بعالم اليوم، وما يجري في منطقتنا وبلادنا شاهد لا يحتاج إلى تأويل.

تناول لينين في هذه الأوراق مسألة جوهرية عديدة تتصل بأعباء الحزب الشيوعي (البلشفي)، وبتمكينه من أداء دوره القيادي، وبتحسين أداء دوره القيادي، وبتحسين أداء جهاز الدولة السوفييتية الخارجة من حربين قاسيتين: الحرب العالمية الأولى، والحرب الأهلية التي خاضها الجيش الأحمر ضد وحدات الجيش الأبيض الموالية للقيصر والمدعومة من الحكومات الأوربية. والتي قادها الجنرالان دينيكين وكالتشاك.

ومن هذه المسائل: تقييم أداء اللجنة المركزية لحزب البلاشفة، والتحدث عن سمات الكوادر المؤثرة فيها، ومناقشة النهوض بالتعليم والثقافة، ومسألة تحسين أداء هيئة التفتيش والرقابة، ومسألة التعاون، والرد على حذلقات (الماركسيين النخبويين)، الذين يحسنون تصيد نقاط ضعف الثورة، دون رؤية لأي موضوع من جميع جوانبه ،كما يشير الديالكتيك المادي.

وأتوقف عند المعالجة المكثفة لموضوع التعليم في الفقرة السادسة من مقالة: (أوراق من دفتر مذكرات) والطريقة التي عرض بها لينين رؤيته لتطوير التعليم في روسيا أوائل عشرينيات القرن الماضي.

عرض لينين في البداية قراءة إحصائية رسمية مقارنة لحال التعليم في روسيا بين عامي 1897 و1920. أي بين الحقبتين القيصرية والبلشفية، مأخوذة من مكتب الإحصاء المركزي. ولاحظ أن التقدم في مضماري التعليم، والثقافة البرجوازية بطيء جداً بالقياس إلى الحقبة القيصرية. ووجه تحذيراً (لأولئك الذين كانوا ولا يزالون يحلقون في سماء الثقافة البروليتارية).

وأضاف بلهجة لاذعة: (إننا لا نزال بعيدين جداً عن المعرفة الشاملة للقراءة والكتابة). ص 26.

ولكن هذه الحقيقة النظرية لا تكفي ـ إن ذكرت ـ كي يستقيم كل شيء، فالانتقال ضروري إلى الحقيقة العملية، وتحديد ما هو مطلوب كي ينهض التعليم: من موازنة كافية، وكوادر مؤهلة ومكتفية مادياً، واكتشاف سبل الخروج من إرث (اللاثقافة نصف الآسيوية) قبل الحديث عن ثقافة بروليتارية أو برجوازية، وتعليم الشعب القراءة والكتابة قبل طبع الكتب والكراسات والتقارير والخطب، ورأى لينين بارقة مضيئة في هذا الموضوع الشائك، هي أن الجماهير الشعبية في روسيا تهتم بالثقافة الحقيقية أكثر من أي مكان في العالم، وأن سلطة الدولة في روسيا تدرك النواقص في ثقافتها وتعليمها، وأن الطبقة العاملة مستعدة لبذل تضحيات جسيمة في هذا الميدان أكثر مما يبذل في أي بلد آخر!

والتقط لينين الخيط المؤثر في إعادة إنتاج النواقص وإعاقة التقدم، وفي البطء والتأخير في تنفيذ الخطط، وهو: إهمال الأساسي، وقال: إننا لا نزال نفعل القليل لتعديل الأمور الأساسية، وهذا ينطبق على تعديل كثير من المسائل التي لم تحلّ أو تتحسن من قبل، أو التي استجدت أمام سلطة البلاشفة الحديثة العهد بتسيير شؤون الدولة، وإدارة التناقضات الداخلية والصراعات مع محيط رأسمالي عدواني متوحش، لا يخفي مساعيه المحمومة للإجهاز على حكومة روسيا، وإنهاك هذه الدولة الصاعدة المنافسة، وقال: (نحن ـ حسب عادتنا القديمة (والسيئة) ـ نخصص للمسائل التكتيكية، كمسألة الطبع والنشر، من الوقت والجهود أكثر بكثير مما نخصص لمسألة سياسية عامة. مثل مسألة تعليم الشعب القراءة والكتابة!  27).

والمسألة الأساسية الأهم التي ترتبط بما سبق ذكره، والتي لا تخص روسيا وحدها. بل لها بعد عالمي هي مسألة موقف المدينة من الريف، وإقامة صلة وثيقة بين البروليتاريا المدينية وشغيلة الريف، ورأى لينين أن لهذه المسألة أهمية حاسمة بالنسبة لكامل الثورة. (واللافت أن لينين أكد: أن هذه الفكرة قدمها له الرفيق خودوروفسكي من تجربة منظمة سيبيريا الغربية. ورأى أن القضية جديرة بالدراسة من الرفاق، وهو يطرحها دون أن تكون لديه وصفة جاهزة لتحقيق هذه الصلة وإنجاح هذه القضية الثقافية الهائلة، وذكر أن النظام الرأسمالي جعل تأثير المدينة على الريف في روسيا مشوهاً ومفسداً، أما السلطة البلشفية فقد تمكنت من تحقيق تأثير معكوس ومطور للريف. ص 30.

قد نتفق على أهمية الأفكار التي طرحها لينين حول التركيز على القضايا الاساسية وتعديلها استناداً إلى المعطيات الإحصائية. ومراجعة الخطط، والتحدث بشفافية عن معوقات التقدم وممارسة الانتقاد بجدية، وربط المعرفة النظرية بالممارسة العملية الناجحة، والتعلم من التجارب الجديدة المبدعة، ونسبة النجاح إلى أصحابه منظمات أو كوادر، والانتقال من العفوية والتلقائية والارتجال والغرق في القضايا التكنيكية والثانوية والمكتبية والسجالية إلى الأعمال المنتظمة الواعية الدؤوبة، ولكن الإعجاب بهذه الأفكار وامتداحها والاحتجاج بها في معرض التذكير بالمهمات الأساسية العاجلة أمام هذه المنظمة أو تلك أو أمام الحزب الشيوعي السوريالموحد، لا يعني بالضرورة إتقان ترجمتها في الظروف الخاص التي يعمل بها حزبنا، وظروف سورية المعقدة.

وأرى أن حاجة حزبنا ملحة إلى فعل دؤوب لتعديل عدد من القضايا الأساسية التي تمكنه من رفع سوية أدائه السياسي، ومن بينها: سياسة تأهيل الكوادر، وطريقة مراجعة الخطط وربطها بمهل زمنية، وتفعيل آليات المراقبة والمساءلة، وتحسين آلية متابعة قرارات الهيئات القيادية ومستويات تنفيذها، وتحفيز المبادرة، وتعميم التجارب الناجحة، والقراءة المتأنية لتأثيرات الأزمة السلبية وتشوهاتها على عمال المدن وفلاحي الأرياف، وللخبرات المتراكمة وطاقات التحمل الشعبية، وللأعمال السياسية الدؤوبة الناجحة.

وإتقان التنبه لتلك التشوهات، وملاقاتها بتفهم وأعمال واعية خبيرة، وحسن الاستفادة من كل النجاحات التي راكمها السوريون بخبراتهم وتكافلهم وتضحياتهم في الميادين المختلفة.

وأذكّر هنا بما قاله الرفيق فرج الله الحلو القائد الشهيد والمنظم البارع لمحمد دكروب الشاب حين قدم طلب انتساب إلى الحزب، وبدأ عمله في الإعلام الحزبي، وسأل الرفيق فرج: متى أنضم إلى (خلية حزبية)؟ فرد الرفيق فرج: عندنا في الخلايا الحزبية لا تسير الأمور كما تسير الساعة السويسرية، أتقن عملك معي في الجريدة، ولا تقلق على عضويتك في الحزب!

دون تمييز الأساسي في السياسة لا يستطيع أي حزب أو منظمة أو كادر النهوض بواجباته أو تنفيذ خططه، أو الارتقاء إلى قوة جدية جاذبة ومؤثرة في تحقيق التقدم الاجتماعي.

العدد 1107 - 22/5/2024