لماذا كان كارل ماركس محقاً؟ (9)

لأي شيء يكون صراع الطبقات أساسياً؟ يبدو أن ماركس يعطينا جواباً من شقّين على هذا السؤال:

فمن ناحية، يطبع صراع الطبقات العديد من الأحداث والمؤسسات وطرق التفكير بطابعه، وإن بدت للوهلة الأولى وكأنها لا علاقة لها به. ومن ناحية أخرى، يلعب صراع الطبقات دوراً حاسماً عند الانتقال العاصف من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية تالية. ولا يفهم ماركس مفهوم التاريخ على أنه (كلُّ شيء كان قد حصل)، وإنما مسار التطوّر الذي اتخذته هذه الأحداث. وهو يستخدم مفهوم (التاريخ) بمعنى المسار المحدد الذي سارت عليه الوقائع، وليس مرادفاً لكامل الوجود الإنساني حتى يومنا هذا.

وبالتالي، هل هو مفهوم صراع الطبقات الذي يميّز تفكير ماركس عن النظريات الاجتماعية الأخرى؟ ليس تماماً. لقد أرينا أن هذا المفهوم ليس من إبداعاته، وكذلك الأمر بالنسبة لمفهوم طريقة الإنتاج. لكنّ الشيء الخاص في تفكيره هو أنه ربط هذين المفهومين معاً، صراع الطبقات وطريقة الإنتاج، ليعطينا تفسيراً جديداً جداً لأحداث التاريخ بالاستناد إليهما. وكانت كيفية تداخل هاتين الفكرتين مثار نقاشات عديدة بين الماركسيين، في حين أن ماركس ذاته لم يُفصح عن الكثير في هذا الصدد. ولو أردنا البحث عن الشيء الخاص بمؤلّفاته، لوجدنا ماهو أسوأ من ذلك. إن جوهر الماركسية هو أنها نظرية التحوّلات طويلة الأمد وتطبيقاتها. ومن المؤسف أن الشيء الخاص في الماركسية هو الشيء الذي يُثير المشاكل بشكل خاص.

وعلى العموم تعني طريقة الإنتاج عند ماركس علاقة قوى إنتاج محددة مع ظروف إنتاج محددة. ويُفهم من قوّة الإنتاج الأداة التي نؤثّر نحن بواسطتها على محيطنا من أجل ضمان إعادة إنتاج حياتنا المادّية. ويشمل هذا التعريف كلَّ ما هو مفيد للتحكّم بالطبيعة بهدف تحقيق هذا الإنتاج. فالحاسوب هو قوّة منتجة إذا ما أسهم في مجمل عملية الإنتاج، بدلاً من استخدامها لتبادل الحديثchatten مع مجرمين محترفين يتظاهرون باللطافة. كانت الحمير في إيرلندا القرن التاسع عشر قوّة منتجة. وعمل الإنسان هو أيضاً قوّة منتجة. لكن هذه القوى المنتجة لا تأتي منفردة ، وإنما هي مرتبطة دائماً بظروفٍ اجتماعية محدَّدة عرّفها ماركس بأنها العلاقات بين الطبقات الاجتماعية. ويمكن لإحدى الطبقات مثلاً أن تملك وسائل الإنتاج، وأن تُستغلَّ طبقة أخرى منها.

غالباً ما تتطور القوى المنتجة، وفق ماركس، مع التطوّر التاريخي. ولم يقصد بذلك أنها كانت تتطوَّر دائماً إلى الأمام، إذ يبدو أنه كان من أنصار الرأي القائل بأنه يمكن لتطوّرها أن يشمل أحياناً فترات طويلة من الركود. ومحرّك هذا التطوّر هو الطبقة التي تسيطر عندئذ على الإنتاج المادي. ووفق هذا الفهم للتاريخ، (تختار) القوى المنتجةُ الطبقة الأقدر على تطويرها، إلى أن تصل إلى مرحلة تصبح فيها الظروف الاجتماعية السائدة تدريجياً عائقاً أمام تطوّرها. عندئذ يقع الطرفان، القوى المنتجة والطبقة الحاكمة، في تناقض عنيف يمهِّد الطريق أمام ثورةٍ سياسية. ويحتدّ صراع الطبقات لدرجة أن طبقة اجتماعية أخرى قادرة على تطوير القوى المنتجة تستلم السلطة من الطبقة التي حكمت قبلها. وعلى سبيل المثال، يترنّح النظام الرأسمالي من أزمة إلى أخرى ومن جمود إلى آخر. وعند نقطة محدَّدة من سقوطه تقف الطبقة العاملة مستعدّة لتستولي على الإنتاج وتخضعه لرقابتها. حتى إن ماركس قال مرّة: (لا تتولّى أيّةُ طبقةٍ قوى الإنتاج قبل أن تكون الطبقةُ التي سبقتها في الحكم قد طوّرت هذه القوى وفق أقصى استطاعتها).

ولم يعبَّر عن ذلك بوضوح، كما هو الحال في المقطع التالي الشهير: في مرحلة ما من تطوّرها، تصطدم القوى المنتجة المادية في المجتمع مع علاقات الإنتاج السائدة، أو كما يقول الحقوقيون، مع ظروف المُلكية السائدة التي تحرّكت من خلالها، وتتحوّل هذه الظروف وفق أشكال تطوّر القوى العاملة إلى قيودٍ لها، وتبدأ عندئذ مرحلةُ ثورةٍ اجتماعية.

تطرح هذه النظرية عدة مشكلات، كما لاحظ الماركسيون أنفسهم بسرعة.

أولاً، لماذا يعتقد ماركس أن قوى الإنتاج تريد على وجه الإجمال أن تتطوّر باستمرار؟ صحيح أن التطوّر الفنّي يتّصف عادة بالتراكم، نظراً لأن الإنسان لا يريد التنازل عن أيّ إنجاز يجلب له الرخاء والفعاليّة الأفضل. فنحن في المحصّلة نوع عاقل لحدٍّ ما، إلا أننا أيضاً نتصف بالعطالة ونجتهد في التقتير في العمل.

(ولهذا السبب نرى أن طوابير الانتظار على صناديق الدفع في السوبرماركت ذات طول واحد تقريباً). وبعد أن اخترعنا البريد الإلكتروني، فمن المستبعد جداً أن نعود إلى الكتابة في الصخر. وفيما عدا ذلك، فإننا قادرون على توريث هذه المنجزات إلى الأجيال القادمة. فلا تضيع أيةُ معرفة تقنية إلا نادراً، حتى وإن اندثرت التقنية ذاتُها من الاستخدام. إن ذلك حقيقة واضحة كالشمس، لكنها لا توضّح إلا القليل. فهي لا تفسّر لنا مثلاً لماذا تتطور قوى الإنتاج أحياناً بسرعة مذهلة، بينما تصاب بالركود في أحيان أخرى طيلة قرون. ويتعلّق ما إذا كان هناك تقدّم فنّي كبير بالظروف الاجتماعية السائدة، وليس بدافع شخصي داخلي.

ويعتقد بعض الماركسيين بأن الدافع الذاتي القوي لتحسين القوى المنتجة ليس قانوناً عاماً في التاريخ، وإنما هو من الفروض النوعية الملازمة للرأسمالية. وهم يرفضون فرضيّة أنه على كلّ طريقة إنتاج أن تستتبع طريقة إنتاج أفضل إنتاجاً. لكنه من المختلف فيه ما إذا كان هؤلاء الماركسيون يستندون في هذا الرأي إلى ماركس. وثانياً، من غير الواضح كيفية اختيار طبقة اجتماعية بعينها التصدي لواجب تطوير القوى المنتجة. فهذه القوى ليست في نهاية المطاف أشباحاً قادرة على مراقبة مسرح الحياة الاجتماعية لتدعو مرشحاً بعينه إلى مساعدتها. تشجّع الطبقات الحاكمة القوى المنتجة بالطبع، لكنها لا تفعل ذلك بسبب نكرانها للذات، وهي لا تُمسك بزمام السلطة من أجل إطعام الجائعين وإكساء العراة، وإنما من أجل تحقيق مصالحها المادية بالدرجة الأولى والحصول على القيمة الزائدة عن طريق عمل الآخرين. وهذا ما يؤدي، من غير علمهم، إلى تشجيع القوى المنتجة عموماً وعلى الأقل على المدى البعيد  زيادة رخاء الإنسانية جسمياً وفكرياً. فهم يكتشفون موارد جديدة لم تكن بحوزة غالبية مجتمع الطبقات ويخلقون بذلك تركة ستتمتّع بها يوماً ما الإنسانية جمعاء في المستقبل الشيوعيّ.

لا شك في أن ماركس آمن بأن الرخاء المادي يمكنه أن يُسيء إلى صحة أخلاقنا. ومع ذلك لم يصطنع خندقاً بين العالم المادي والعالم الأخلاقي، كما يفعل بعض المفكرين المثاليين. بل رأى أنه لا بد من تطوير كفاءات الإنسان ومواهبه من أجل تطوير القوى المنتجة. وبمعنى ما، ليس التاريخ قصّة تقدّم إطلاقاً. فنحن نترنّح على الأرجح من شكلٍ إلى شكل آخر من أشكال المجتمع الطبقي والاضطهاد والاستغلال. وبمعنى آخر، يمكن أن نفهم هذه الحكاية القاتمة على أنها، بالقدر الذي يطوّر فيه البشرُ رغباتٍ أكثر تعقيداً من السابق، وبالقدر الذي تتطوّر فيه نماذج علاقات جديدة وطرق نجاح لم تكن معروفة سابقاً، على أنها حركة نحو الأمام ونحو الأعلى.

ستدخل الإنسانية جمعاء في المجتمع الشيوعي ومعها هذا الإرث، ولكن لا يمكن الوصول إلى ذلك دون عنف واستغلال. وفي نهاية هذا التطوّر تنتظرنا علاقات اجتماعية سيوزَّع فيها الرخاء المتراكم على الجميع، بينما يُحرم غالبية الرجال والنساء خلال عملية التراكم هذه من التمتع بثماره. وهذا ما قصده ماركس عندما قال: (إنما هو الجانب السيئ…. الذي يصنع التاريخ). ويبدو أن الظلم الآن هو شرط مسبق لا بدّ منه لتحقيق العدالة لاحقاً. الغاية تتعارض مع السُبُل: فدون الاستغلال لن تنمو القوى المنتجة، ودون هذا النموّ لن تُخلق القاعدةُ اللازمة لتحقيق الاشتراكية.

 

تأليف تيري إيغلتون

العدد 1107 - 22/5/2024