«التاريخ الشفهي والذاكرة الجمعية… الحسكة أنموذجاً»

اهتم المؤرخون غالباً بالتدوين للملوك، والسلاطين، والأمراء، وتاريخ الدول وأهملوا الفئات الشعبية. وظلت هذه الفئات تؤرخ لنفسها فتتناقل الأخبار عن الماضي مشافهة، وبالطريقة البدائية، منذ عام الفيل إلى (الثلجة الكبيرة).

ويرى الباحث محمد السموري أن البحث في موضوع التاريخ الشفهي، والذاكرة الجمعية، أمر في منتهى الصعوبة والدقة والحذر. إذ هو موضوع إشكالي بحد ذاته. وذلك لإشكالية التذكر والنسيان، مما يرتب على الباحث فيه منهجية الاستقصاء الحَذِر، والشك في كل معلومة، وهذا ما يقودنا إلى ضرورة تقصي المرويات الشفهية من المعمرين والعارفين.

والذاكرة الجمعية هي المصدر الأساسي للتاريخ الشفهي، لارتباطه بجملة من العوامل الثقافية للمجتمع: كالعادات، ونظم العيش، وطرائق التفكير، والبنية السيسيولوجية والأنتروبولوجية.

إذ قام الباحث السموري بتقسيم كتابه (التاريخ الشفهي والذاكرة الجمعية) إلى أربعة فصول، تحدث في الفصل الأول عن فلسفة المفهوم، وعن أهمية التاريخ الشفهي، ومصادره كالذاكرة الفردية والجمعية، وعن مفهوم التراث الحيوي، ثم الشعر، والخطابة، فالحكايات، والسير الذاتية، ووقف ملياً عند الأسطورة كذاكرة جمعية، وأثر الأسطورة وتجلياتها في اللاوعي الجمعي، وعلاقة كل هذا بالتاريخ الشفهي.

ويرى السموري أن التاريخ الشفهي يعني طريقة معرفة الزمن، والأحداث، وتناقل الأخبار مشافهة من شخص إلى آخر، وبالتواتر من جيل إلى جيل. فهو يرى في المأثورات الشعبية رافداً أساسياً من روافد التاريخ،  وتشكل البنية التحتية التي يتأسس عليها البناء الثقافي الشعبي.

كما يعد التراث الحيوي أهم مصادر التاريخ الشفهي باعتباره أحد الركائز العملية للذاكرة الجمعية. ويعرّف الباحث التراث الحيوي أنه: التراث الذي نمارسه اليوم بما فيه من: لغة، وعادات، وتقاليد، ومعارف، وخرافات، وتجليات أسطورية، وأنماط معيشة، وقيم اجتماعية، ومختلف فنون الأداء، وسواها. وهي متواصلة منذ أن عرفها الأجداد في الأزمان الغابرة. أما التراث غير الحيوي فيتعلق بما اندثر ذكره، ولم يعد يعرف عنه الشيء الكثير، واقتصر وروده على صفحات التاريخ، أو كتب التراث، والمدونات والمتاحف. والتراث كله تراث سواء كان حيوياً أم غير حيوي، ولكن الحيوي منه مصدر مهم للتوثيق.

ومن مصادر التاريخ الشفهي: الشعر والخطابة، وقد وصلنا كثير من الأخبار والمعلومات عن أهم المعارك وأبرز أبطالها وأماكن تلك المعارك ونتائجها عن طريق الشعر والخطباء، أو عن طريق سوق عكاظ عبر القصائد التي كانت تلقى في هذه المناسبة. والشعر لما يتركه من أثر دائم في نفوس العرب، يبقى محفوظاً في الذاكرة، ومتناقَلاً على الألسن من السلف إلى الخلف، وكان الشعر ديوان العرب. وفي ذلك يقول ابن قلاقس:

إذا ما المجدُ لم يُضبطْ بشعرٍ

فقد أضحى بمدرجةِ الضياعِ

والشعر تاريخ ومعرفة وقيم، فهو مصدر مهم من مصادر التاريخ الشفهي.

وقد خصص الباحث الفصل الثاني للجانب التاريخي، وتحدث عن بواكير التاريخ الشفهي عند العرب، ثم تجارب بعض الشعوب في هذا المجال.

وقد اعتمد العرب في التاريخ على الأحداث الهامة النادرة، كالظاهرات الطبيعية، من خسوف وكسوف وفيضانات وبراكين وزلازل، كما أرخوا الأحداث الإنسانية كالحروب، والموت، والزواج والسفر، وحروبهم القبلية التي عرفت بأيام العرب، مثل وقائع بكر وتغلب ابني وائل في حرب البسوس، ووقائع عبس وذبيان، في حرب داحس والغبراء، ووقائع الأوس والخزرج.

أما الفصل الثالث فتناول قضية المواقيت، إذ يرتبط التاريخ الشفهي بالمواقيت كمحددات زمنية للأحداث، من ذكر هذه المواقيت عند العرب. وهي تعكس جملة معارفهم الفلكية وطرائقهم بحساب السنين، والشهور والأيام. واهتم الباحث بالمواقيت في تراث الجزيرة السورية، (نماذج تطبيقية) فتحدث عن التوقيت بأيام العجوز، وعن مربعانية الشتاء، وخمسينية الشتاء، والستينية، وأيام عنتر، والقرانات، والتعبيرات الشفهية في المواقيت. ومربعانية الشتاء: وهي أيام برد شديد مدتها أربعون يوماً من 20 كانون الأول إلى 2 شباط، وتسمى أيام الصحة.

أما خمسينية الشتاء فتبدأ بعد المربعانية، ومدتها خمسون يوماً،  وتقسم إلى أربعة سعود، كل منها اثنا عشر يوماً ونصف، وهي سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الخبايا.

وهناك تعبيرات شعبية مجازية عن التوقيت الشفي جادت بها: الأمثال، والأقوال، والكنايات، الفصيحة والعامية، وهي معروفة ومتداولة شعبياً كقولهم:

 أثلجت وأفرجت: الثلج يُغني عن المطر.

 إذا انمطرت قاع بشرت أختها. القاع: الأرض، للتفاؤل بالقليل المفيد.

ونقرأ في الفصل الرابع تعريفاً موجزاً للجزيرة السورية تاريخياً وجغرافياً وبشرياً. وللمحافظة أهمية تاريخية وسياحية، فهي تمتاز بعدد كبير من المواقع الأثرية، وأغلب هذه المواقع تتوضّع في التلال المنتشرة على ضفتي نهر الخابور، والتي تعد من أقدم حضارات العالم. وقد وثقت أغلب الأوابد في النصوص المسمارية، والآشورية القديمة.

وتمتاز محافظة الحسكة بتنوع سكاني واسع، فهي تضم: العرب بمختلف قبائلهم، والسريان، والأكراد، والآشوريين، والكلدانيين، والداغستان، والأرمن، والتركمان، والشركس، والشيشانيين، واليزيدية.

وللجزيرة أهمية اقتصادية كبيرة، سواء في الزراعة أو الثروة الحيوانية وبحقول النفط، وتبقى مياه الجزيرة في الذاكرة. وللمياه قصص من الخيال الجمعي، لأنها من جهة سبب وجود الإنسان في هذا المكان، ومن جهة أخرى سبب فنائه أو تشريده بسبب الفيضانات، أو الموت، أو الخراب. وهكذا بدأ أهل الجزيرة السورية يؤرخون الأحداث بسني فيضان الأنهر، أو تفجر الينابيع وشحها، كتفجر نبع الكبريت، فقد انفجر نبع الكبريت في رأس العين عام ،1962 وقد ارتادها الناس للسباحة بمياهها الكبريتية الدافئة لاعتقادهم أنها تشفي الأمراض الجلدية.

وقد عرف سكان الجزيرة السورية التاريخ بأسماء السنين، مثل سنة ذرَّاية، أي الثلجة، وسنة عامودا، هذه الطريقة الشفهية في تسمية السنين بالأحداث التي وقعت فيها، أو التأريخ بزيارات المسؤولين الكبار، كزيارة الرئيس شكري القوتلي، وبعدها زيارة عبد الناصر للجزيرة.

ووفاء من الرئيس شكري القوتلي لأهالي الجزيرة الذي احتضنوه ورفاقه أيام الإقامة الجبرية في محافظة الحسكة، فقد بادر إلى زيارة الحسكة والقامشلي في 5/5/1947 ووضع حجر الأساس للمشفى الوطني في شارع القوتلي. وتأتي هذه الزيارة تقديراً للدور الوطني للآغا حسين أسعد في التصدي للفرنسيين.

كتاب (التاريخ الشفهي والذاكرة الجمعية – الحسكة أنموذجاً) كتاب متميز، يوثق وقائع مما حفظته الذاكرة الجمعية، المصدر الأساس للتاريخ الشفهي.

العدد 1105 - 01/5/2024