أيها الراقد بجوار شيخنا الأكبر… السلام عليك!

(عبد الوهاب البياتي شاعر أصيل من أولئك الشعراء الحقيقيين الذين كان تجديدهم تلبية لدواعي المحتوى الجديد، وليس سعياً وراء بدعة أو حذلقة..).

ناظم حكمت

(كلما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة/ فالتجأت إلى رصيف الحلم والأشعار/ كم أمشي إلى حلمي فتسبقني الخناجر/ آه من حلمي ومن روما/ جميل أنت في المنفى/ قتيل في روما)

محمود درويش

(نحن من منفى إلى منفى/ ومن باب لباب/ نذوي كما تذوى/ الزنابق في التراب/ فقراء، يا وطني، نموت، وقطارنا أبداً يفوت..).

عبد الوهاب البياتي

الوجدان الفردي (الأنا، الذات..) لا يمكنه أن يتفتح، حين تكون الهوة سحيقة بين الواقع والصبوات، إلا من خلال وعي المأساة الاجتماعية. وفي البلدان المتخلفة أو النامية، أو في ما اصطلح على تسميته ببلدان العالم الثالث، كما يقول المثقف العربي الجليل جورج طرابيشي، يكاد ضمير الأنا أن يكون مستحيلاً، وفي أحسن الأحوال لا يطاق. (الأنوية) في تلك البلدان هي بالضرورة أنانية، وفي الوقت الذي لا يصير فيه الإنسان إنساناً إلا إذا تفتح وجدانه الفردي، فإن شرط تفتح هذا الوجدان في بلدان العالم الثالث ليس التفرد والتمايز عن المجموع بقدر ما أنه وعي مأساة هذا المجموع المحال عليه أن يتفرد ويتميز (..؟).

والرؤيا (هذه الكلمة تنطوي على إيحاءات عميقة، وأبعاد غير محددة، ودلالات تأبى التقنين، وهذا كله لا يتوافر في كلمة رؤية). الرؤيا الشاعرية والفنية والإنسانية لدى عبد الوهاب البياتي خرجت بشكل حقيقي من المحدود (الذات…) إلى اللامحدود (الآخر…). ومن أشعاره الأولى نلحظ أن الرؤيا (البياتية) بأبعادها الفكرية والحضارية والأدبية والثقافية عموماً رفضت المحدود، وغرّدت في فضاء اللامحدود الحر، الرحب والمفتوح.. ولكن عندما لا يبقى نهر الحرية، الحقة بجميع معطياتها، أميناً لمجراه، تصير (الرؤيا) سوداوية ومأسوية، بل كارثية بكل المقاييس، ويقف الموت بجميع دلالاته ضاحكاً مختالاً في الجهة المقابلة والمضادة للحياة التي تئن من وطأة حزنها وبؤسها وألمنا وبؤسنا..

متُّ من الحياة

لكنني ما زلت طفلاً جائعاً يبكي

كان هو الموت

رأيته في عرصات البلى

يعيد في هباتها سبكي..

دمي على قناعه وهو لا

يضحك في السيرك ولا يبكي

قلت لأمي الأرض لا تجزعي

فهو الذي حدثني عنكِ

أورثني الفقر وها إنني

أرزح تحت تاجه الشوكي

إن حكت الحياة عن بؤسها

فما الذي عن بؤسنا نحكي

نذبل في ليل المنافي ولا

نشبعُ في عناقنا منكِ…

لقد احتل المنفى (سواء أكان قسرياً أم كان اختيارياً) وما ينطوي عليه من إشكالات ومعاناة، ومناخات متقلبة، ومفردات متغيرة، وأجواء غير مستقرة، وبما يحمل في طياته من وجع وشوق وحنين متعدد، مفتوح ودامٍ في بعض تجلياته، احتل مساحات واسعة من إبداعات (البياتي) الشعرية، فالمنفى وهبه ذهب القصائد ورمادها، كما وهبه الفقدان والتعود عليه، والشعور بأن العالم قرية كبيرة، كما منحه شعوراً ضد القبلية والتعصب والطائفية، وضد الجلادين والقتلة في كل زمان ومكان، على حد تعبيره في أحد حواراته.

يقول عبد الوهاب البياتي متوجهاً بخطابه الشعري إلى ولده (عليّ):

… مدن بلا فجر تنام

ناديتُ باسمك في شوارعها

فجاوبني الظلام

وسألت عنك الريح

وهي تئن في قلب السكون

ورأيت وجهك

في المرايا والعيون…

لقد كتبتُ هذه المقاربة الصغيرة.. لتكون أشبه بدعوة إلى أهل الثقافة عموماً، وأهل النقد خصوصاً، لإعادة النظر في التجربة الشعرية لدى عبد الوهاب البياتي، والكتابة عنها، وتناولها تناولاً يليق بها، أي دراستها دراسة نقدية حقيقية بعيدة عن الإنشاء المدرسي، وبعيدة، كذلك، عن القدح والذم أو الإطراء المجانيين.. فهي تجربة رائدة، وهي من أغنى التجارب الإبداعية/ الحداثية في الشعر العربي المعاصر.

يوم رحل (البياتي) رحلته الأبدية، ويوم شيّعته دمشق القصيدة والعروبة صباح الأربعاء 4/8/1999 وما بعده بقليل طالعتنا الصفحات الثقافية العربية برثاء مؤلم وجيع.. وهجم علينا أهل المراثي هجوماً فجائعياً مدوياً، وبكوا بكاء مريراً مروّعاً.

وماذا بعد..؟ لا شيء، فقد غاب، على وجه الإجمال وفي حدود علمنا، اسم الشاعر العربي الرائد عبد الوهاب البياتي عن الصحافة الثقافية العربية، وعن المنابر الإعلامية المختلفة والندوات الأدبية والنقدية هنا وهناك، ولم يعد أحد يذكره (..؟!).

أيها الراقد بجوار شيخنا الأكبر.. من على صفحات (النور) الثقافية نقول، فيما نقول: السلام عليك، وعلى كل أدب يعمل، بمواقفه ورؤاه، على تغيير وجه العالم ليغدو أجمل وأنبل وأرقى، عالم ينبت خيراً وعدلاً وتقدماً.. ويدحر استغلالاً وظلماً وتخلفاً… ويقيم حياة إنسانية حرة وكريمة تليق بالإنسان الذي يعلو ولا يُعلى عليه.

لقد رحلت، يا أبا علي، قبل أن تصل إلى عالمك الذي طالما تشوّقنا إليه، وحلمنا به. ومع أن شدة الجهد.. من أجل قدوم مفردات هذا العالم الإنساني المشتهى قد التهمت نفسك ولم تُبق منها شيئاً، فإنه يكفيك شرفاً أن تحترق بمثل هذا النبل.

العدد 1105 - 01/5/2024