صوت العقل

لم يخطئ ابن خلدون في مقدمته التي صنفت تطور البشر من البدائية إلى البدو، ومن البدو إلى الريف، ومن الريف إلى الحضر. والمجتمعات التي قرأت التاريخ جيداً عملت بهذه النظرية وتطورت وأصبحت من التقدم العلمي والثقافي والاجتماعي على درجة كبيرة من الإنسانية، بغض النظر عن مؤسساتها السياسية والعسكرية وما تمارسه. لكن ما يبدو أن هناك مجتمعات بعينها من البشر هي التي أخطأت قراءة التاريخ قراءة صحيحة، ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فنحن نرى ونسمع عن ممارسات من البشر ضد البشر فاقت العهد الطوطمي الذي كان فيه الإنسان من الجهل يعبد نباتاً أو شجرة بعينها، وعصر المشاعة البدائي الذي كان فيه البشر لا يفرقون بين أفراد الأسرة الواحدة أو العائلة أو العشيرة أو الأخت أو الأم أو زوجة الأخ أو العمة أو الخالة، لذلك سمي عصر المشاعة الجنسية.

 وفي القرن السابق هذا القرن الذي ما يزال في بدايته، ورغم الوعي الفكري والإنساني لدي الكثيرين من شعوب الأرض، وأيضاً على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي نجد أن بعض التصرفات لدى مجموعات معينة من البشر فاقت ما كان يجري في العصور البدائية الغابرة، التي كان فيها الإنسان يأكل لحم أخيه الإنسان. فبماذا نفسر أن يدخل مسلح ببندقية وبعقلية ظلامية متطرفة مسجداً أو كنيسةً أو معبداً دينياً ويقتل المصلين بحقد أعمى؟ على الرغم من أنه لم يرهم ولم يستمع إليهم، وأعمته مخيلته الدموية عن النظر في عيون الأطفال والبراءة التي تستوطنها، بل فعل ما فعل لمجرد أنهم من طائفة أخرى. والأمرُّ من ذلك أن بعض المتطرفين القتلة يترصدون أبناء دينهم ويبيدون الصغير والكبير، لمجرد أنهم يختلفون معهم في المذهب. من أين لنا أن نعلم أن حقداً نائما دموياً يسكن نفوس الكثيرين منا؟ كيف يجرؤ إنسان ملتحٍ، يصلّي لله ويتضرع ويقبّل صغاره ويدعو لهم في صلاته، أن يحز رقبة إنسان آخر لمجرد أنه خالفه بالرأي، أو كان ينتمي إلى فريق آخر على خلاف معه؟كيف لمخيلتي وعقلي أن يحتمل منظر إلقاء شخص من سطح مبنى شاهق، بذريعة أنه مع الطرف الآخر؟ ألم يقل سبحانه وتعالى: (من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)؟ سورة المائدة الآية 32.

 أي همجية هذه التي بتنا نعيشها، وأي مبادئ سواء كانت دينية أم فكرية، التي تبيح لنا هدر الدم الإنساني بهذه الصورة المريعة القذرة؟ ألم يكن لهؤلاء الضحايا أطفال وزوجات ينتظرون عودتهم؟ ألم يفكر القاتل الذي يفجر نفسه أو حافلة وسط الناس بأن هناك أطفال لا تزال يرقات البراءة  تتراقص أمام مخيلتهم الغضة الطرية؟ ألم يكن من حق تلك الطفلة المقتولة أن تعيش؟ بأي حق وأي دين وأي أخلاق سمحتم لأنفسكم قتل حلمها، بأن تكبر وتحب وتتزوج، وتشارك زوجها مسراته وهمومه، تعد له القهوة وترتشفها معه على الشرفة عند الأصيل، تنجب الأطفال، تنجب طفلة تشبهها ترضعها من ثديها، تشتري لها الدمى، تهدهدها حتّى تنام. تحلم بأن طفلتها تكبر كما كبرت هي، تضفر لها شعرها تشتري لها الحلوى توصلها إلى المدرسة، تنتظر عودتها، تراجع لها دروسها وتضمها إلى صدرها بحنان، تماماً كما كانت تضمها أمها؟ أي مجرمين، وأي سفاحين، وأي قتلة هؤلاء؟

 إن الله أنعم على البشر جميعاً بالعقل الذي يفكرون به ويعرفون من خلاله الصحيح من الخطأ، والخير من الشر، وعدونا وعدو هؤلاء أمامنا ولا يحتاج إلى الدلالة عليه، فالذي يحرضني عليك ويحرضك عليّ هو عدونا معاً. ومن يقدم لك المال والسلاح لتقتل أخاك الإنسان هو عدونا معاً. ألم تقرأ قوله تعالى عن الفتنة (والفتنة أشد من القتل) سورية البقرة/،191 (والفتنة أكبر من القتل) سورة البقرة/ 217؟ فكيف نغلق عقولنا ولا نستمع إلا إلى صوت واحد هو صوت الفتنة والشر والخراب والدمار لسورية وتحريض أبنائها على قتل بعضهم بعضاً؟ ألم تترعرعوا في كنف هذا الوطن؟ ألم تشعروا بالأمان والطمأنينة وأنتم تتوسدون ترابه؟ فكيف تدمرونه إذاً؟

 الدين ليس القتل بل التسامح والمحبة، والمعارضة لا تعني سفك الدم لمن يعارضني، بل يجب أن تكون وجهات نظر مختلفة تصب في صالح هذا الوطن من خلال الحوار الهادف والبناء. ولم تفت الفرصة بعد على الرغم من كل ما حدث.

 كنا وما زلنا نراهن على وعي شعبنا العربي السوري، فلا تجعلوا من رهاننا وهماً!

العدد 1105 - 01/5/2024