«الفردي» و«الوطني»

كثيرة هي الظواهر التي تستوقفك في تاريخ الأدب، سواء أكان بإنتاجها أم بطبيعتها، وابن الرومي (836-896م) شاهد من الماضي على الحاضر. والجدير بالذكر أنه من أب رومي وأم فارسية، إلا أنه لا يعرف لنفسه وطناً إلا بغداد، ولا يطيب لسانه إلا بالعربية، ومن جميل ما أُثر عنه قوله:

ولي وطنٌ آليتُ ألا أبيعَه

وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا

 

وكلمة (الدهرَ) الواردة في الشطر الثاني – بفتح حرف الإعراب (تعني استطالة الزمن، والزمن هنا متجاوز لزمن الشاعر في الحياة، إنه زمن الوجود المفتوح، بل متجاوز لحدود المكان لمفهوم (الوطن) في مرحلة ما قبل دولة الخلافة. فقد كان الوطن محدود الدلالة على (البيت) أو مضارب القبيلة، لكنه مع مغادرة عوالم البداوة يغادر المصطلح حدود نشأته الأولى، لتتسع حروفه لتحولات التمدن في مدينة كوزموبوليتانية ك (بغداد). وعلى الرغم من علاقة ابن الرومي المضطربة كفرد متمرد على طريقته بسلطان الدولة أو بسلطان الهيئة الاجتماعية، فإنه استطاع أن ينتظم في البنية الثقافية، وذاك الانتظام كان له خصوصية غريبة. فقد كان الشعر وسيلته الوحيدة سواء عن طريق الهجاء أم عن طريق المديح – الرثاء، وما كان للشعر وحده أن يجعله منتظماً أو متوازناً، فقد كانت اللغة الكفوءة التي وظفها أكبر من قدرة الفن (الشعر) على ضرورة التوازن. وهنا نتطارح المسألة التالية: كيف يمكن أن نوفق بين النزوع الفردي وبين المقدار الضروري للبقاء في المجتمع (الوطن)؟ قد يكون الجواب على غير شكل وعلى غير اتجاه، لكن الأشكال والاتجاهات تتلاقى على الهدف والغاية.. على المؤسسة (التمدّن).

واللافت المعضل دخول التكنيك الحديث فاصلاً منازعاً بين المؤسسة والطبيعة الإنسانية، لينتج تخالعاً بين الحافز المادي وبين ضرورات الخلق والتملك.. وكأنه يرد العلاقة بين الاستشاطة للذهن الفردي المبدع وسلطان المجتمع إلى القضية القيمية.. ففي الجماعات من الكائنات الحية غير البشرية، كالنحل مثلاً، تبدو الغريزة في أكمل أشكالها. فالوظيفة البيولوجية لهذا الكائن تمكنه من ولاء غير عادي للوطن (الخلية)، ولا يمكن لها أن تعيش منفردةً. وبالمقابل فإن هذا الكائن المتقدم نوعياً نسبياً لا يمكن له أن يتجاوز شرط وجوده الأول، فلا يخلق حالة جديدة ولا يصنع فناً ولا كشفاً، إنه – بالضرورة – محكوم بالرتابة والاطراد على النمذجة البيولوجية الأولى.

أمّا في الحياة البشرية فقد اختلف الأمر، ولأن طبيعة الآدمي قابلة لتجاوز الشرط الأول فإنه أدخل الاضطراب إلى نفسه وإلى العالم من حوله. ولعله (الاضطراب) كان ضرورياً ولا يزال لتبقى الحياة الاجتماعية قابلة للتقدم والحذف والاصطفاء. فالتمكن من الانعتاق من الركود والصيغة الواحدة ضرورة من ضرائر التقدم في البشر كنوع وكمجتمع، في حين لو أصاب الاضطراب مجتمع النحل أو النمل أو الكائنات البحرية فإنه يعني الموت أو الانقراض أو الانتقال إلى فصيلة أخرى.

فالغريزة البدائية في الجنس البشري جعلت الحياة البدائية قابلة للاستمرار، فالرد البدائي لا يقوى على الحياة المنعزلة، فالتماسك الاجتماعي بدأ بولاء للجماعة، أساسه الخوف من عدوين: الطبيعة، والعدو البشري الأقوى. وفي المجتمعات الحديثة تشكلت الأحلاف السياسية (وارسو) الاشتراكي ضد (الأطلسي) الرأسمالي، و(عدم الانحياز) كان بادرة رأسمالية في عمقه، لأنه حرم الحلف الاشتراكي من كتلة العالم الثالث. وكذلك تشكلت اليوم أحلاف اقتصادية، والحلف الاقتصادي يجتمع فيه (التقني – التجريبي – السياسي) ثم يحتاج إلى غطاء سياسي كالسوق الأوربية المشتركة التي أنجبت (الاتحاد الأوربي) هذا في العالم المتقدم.

وفي العوالم ما قبل الصناعة والتقانة والدولة… فإن الأحلاف ترتد إلى البدائية، ففي الجماعات البدائية كان الزواج يحدث ضمن المجموعة الواحدة فيتكرر النموذج، مَثَلُه في ذلك مَثَلُ وحيدات الخلية، (الواحد) يشبه (الكل). ومن  الغريب الذي صار مألوفاً أن ظاهرة البداوة لا تزال تجد لنفسها مكاناً سواء بشكلها الثقافي أم بشكلها السياسي أم بهياكل اقتصادية لا تنتمي إلى مجتمعات ما بعد الإصلاح الكنسي أو الكشف الجغرافي أول (الدولة) أو (المجتمع المتمدن). ومن هذه الصيغ (الجامعة العربية) التي تأسست لصالح المرحلة الكولونيالية المحتضرة وتحت الشرط الإنجليزي. واليوم وبعد أن دخل الاتحاد الأوربي في نزاع مع تاريخيته وعلمانيته يصطنع تحالفاً مع النظام السلفي العربي على حساب النظم الآخذة بالتطور اللارأسمالي، أو ذات الصيغة شبه العلمانية، وهذا التحالف بين النقيضين أفصح عن الأزمات العميقة عند كليهما. فالاتحاد الأوربي يعيش حالة من الاحتضار بسبب فقر الموارد الأولية، وبسبب اقتحام العملاق الصيني لساحاته التسويقية. وأما القبائل المنجمعة تحت شرط الجامعة العربية فأزماتها أعمق، فثمة الأزمة الوطنية والحريات السياسية وإعادة هيكلة الدولة. ولعل أعمق الأزمات وأخطرها العلاقة بين الدين والدولة، ثم تنبثق من طبيعة تركيب المجتمعات العربية ظاهرة الانفجار السكاني التي تتجاوز في أيّة دولة عربية إمكانية التنمية حتى في بلدان البترودولار. وينتج القانون – وكل هذا يكرس ظاهرة (التغرّب) في المكان الذي يجب أن يُسمى وطناً وفي الزمان اتحاد الأطلسي بالأصولية الإسلامية. وهذا الزمن يقدّم الحلول المرحلية للأطلسي بديلاً من الحرب التي يلجأ إليها الغرب عندما تتعرض مصالحه الاستراتيجية للخطر، التي كان العالم العبودي (أسبارطة) يلجأ إليها في توسيع المجال الجغرافي لطبقة الأحرار المالكة للأرض بالضرورة.

ودولة الإسلام شخّصت تجربة خطيرة في التاريخ، وهي (الولاء للمذهب) أو (المعتقد) في القرنين الميلاديين السابع والثامن، مما عزز فكرة الطموح الاقتصادي لطُغَم قريش، وخاصة في عهد عثمان بن عفان، تحت عنوان (الفتوحات) على حساب فكرة الولاء للمكان، سواء كان المكان (الجزيرة) أم (الشام) في العهد الأموي. ويمكن لنا أن نجد في الانتفاضة الفلاحية التي وصفها المسعودي في مروج الذهب بأنها الأولى في التاريخ ضدّ مروان بن الحكم الذي كان كاتباً لعثمان ثمّ والياً على المدينة ثم خليفة في الشام.

والزمن الرابط بين مصالح الاتحاد الأوربي والأصولية الإسلامية يقدم إنعاشاً للطرف الآخر، أي الدول التي اتخذت الأشكال القبلية تحت مسمّى (الجامعة العربية)، هذا الإنعاش يبدو صيغة لنموذج قابل للاستمرار، لكنّه – كما يبدو – صورة الاحتضار التي تسبق الموت.

فإذا كانت المسيحية – منذ الحروب الصليبية (1097-1291م) قد رجّحت الانتماء الروحي على حساب الولاء الوطني، فقد كان الكاثوليك الإنجليز يقفون إلى جانب إسبانيا في الحرب، والهيجونوث الفرنسيون إلى جانب بريطانيا، فإنّنا لا نجد ذلك حاصلاً بعد عصر العلم والأنوار والصناعة. فقد تشخص مفهوم (الوطن) بعيداً عن المذهب أو العقيدة. ففي القرن العشرين سيطرت عقيدتان: الماركسية السوفيتية، والذرائعية الأمريكية. ففي البلاد السوفيتية ربط الحلم الماركسي بين أعراقها، وعندما استنفذ طاقاته تشكلت الأوطان الجديدة على أساس العرق والثقافة واللغة، والولايات المتحدة ذات الخلائط البيولوجية وحّدت الأعراق واللغات والثقافات في مفهوم (الوطن) الجديد الذي وجدت فيه تلك الأعراق نوعاً كريماً لوجودها.

ورغم تباين الأعراق في المجتمع الأمريكي فإنّ الولاء لمفهوم الدولة المركزية قوي للغاية، ومن هنا نفسر مقولة إبراهام لنكولن (1809-1865) إن الولايات المتحدة ذات رسالة، والرسالة التي أرادها لأمته لنكولن هي بعد تحرير العبيد (جمع الأشتات) على الأرض، وتأجيل النزاع على الميتافيزيقا (الآخرة).. ويلاقي هذا الرأي رأي المفكر السوري أنطون سعادة في مرحلة المدّ الشعبي الوطني، أي النصف الأول من القرن العشرين: (إن قتالنا على السماء أفقدنا الأرض).

لقد أفادت الأمم الكبرى ذات الأعراق المتعددة من تجارب الشعوب القديمة في مسألة الوحدة الاجتماعية، رغم الفوارق في البنية العدديّة للعوالم القديمة والعوالم الحديثة. وكلما كانت الشعوب القديمة معرضة لاعتداء الطبيعة أو لعدوان خارجي كانت الكثافة السيكولوجية تدفع باتجاه التماسك. ويُروى عن ستالين أنه نادى شعوب الاتحاد مع هجوم هتلر على الحدود السوفيتية قائلاً: (يا أبناء كاترين) صاحبة أوّل تجربة في التعليم الديمقراطي في العالم. ولقد عايشنا نداء الرئيس حافظ الأسد مع بداية حرب 1973 قائلاً: (يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، إن ضمير أمتكم يناديكم…)

ومن قبل هذا وذاك، دأبت كل من البوذية والمسيحية على دفع الحسّ السيكولوجي إلى أن يتجاوز تاريخهما وجغرافيتهما إلى الجنس البشري كله (صناعة الأخوة البشرية) محاولة بذلك تجاوز الأصل البيولوجي إلى التواصل العقيدي.

لكن الديانات مهما بالغت في الأخوة الإنسانية فإنّها لا تستطيع بناء الأخوة الوطنية، وفي لحظة الانكماش تنبثق عنها فلسفات هدّامة تعادي الفن واللغات والأعراق غير الشبيهة، كما فعلت طالبان بتمثال بوذا. وفي المسيحية نفسها ما إن اختفت العبودية حتى اخترع النظام الإقطاعي المعبر عنها نظام القنانة. وهنا تحضرني مقولة الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل: (المواءمة بين البواعث البدائية وطريقة الحياة المتمدنة أمر مستحيل). ومن هنا نستطيع أن نرى في الفلسفات الغيبية كلها طوراً آخرَ من البدائية التي يستحيل معها شكل آخر للفكر أو الثقافة أو الدولة.

وإن كان لنا رأي نبديه فإنما نرى بمقولة روسو (1712-1778) خطوة تأسيسية تقبل البناء عليها وفق تطور البشر والمكان والزمان: (يستطيع الناس تحقيق شيء من الحرية المدنية، بدخولهم في تعاقد اجتماعي يجعل السيادة للمجتمع بأسره). ولا سيادة للمجتمع اليوم إلا بسيادة القوانين الوضعية لا الشرعية، والقوانين الوضعية تحتاج إلى تنظيمات سياسية تنقل الجماهير من الوضع السديمي إلى الوضع النوعي لصياغة مفهوم الوطن والمواطنة، لا السيد والرعايا، والانتماء بالولاء لا بالأعراق، ولكل حقه في الوجود وحقه في العمل وحقه في الاعتقاد، وحرية الروح كحرية العمل السياسي، والوطن يكفل للجميع حقهم في الإفصاح عن وجودهم باللغة والمعتقد، ولا قداسة إلا لوحدة الأرض… والعمل حق وواجب، والثروة الوطنية أغلاها الإنسان… ولكل إنسان حقه في ثروات وطنه الأخرى… وللوطن على بنيه حق صونه وتعاليه… وإن كان لبعض البيان سحر، ففي قول بدوي الجبل – وهو في المنفى – كلية السحر:

ولي وطنٌ أكبرتُهُ عنْ ملامةٍ

وأُغليهِ أن يُدعى على الذنبِ مذنبا

ومنْ حقِّه أن أحملَ الجرحَ راضياً

ومنْ حقّهِ أن لا ألومَ وأعتبا

العدد 1105 - 01/5/2024