حجر الفلاسفة في«خيميائي» باولو

إن ما يسمى ب (الملكة الشابة) أي حجر الفلاسفة، هو الخليط المؤلف من الأسد الأحمر الذي هو أوكسيد الزئبق، والزنبقة التي هي حمض الكوردريك، والألوان الشبيهة بألوان قوس قزح الذي هو أوكسكلوريد الزئبق. لقد نشرت مؤلفات باولو في أكثر من 168دولة، وترجمت إلى 73 لغة، وبيع منها أكثر من 135مليون نسخة. وقد صرحت (التايمز) البريطانية (أن لكتبه أثراً كبيراً في حياة الملايين من الناس).

لعل عناوين باولو من (الجبل الخامس)، إلى (فيرونيكا تقرر أن تموت)، و(الشيطان والآنسة بريم)، و(ساحرة بورتو بيلّو)، و(الرابح يبقى وحيداً)، و(ألف).. وغيرها من العناوين، إلى عنوان روايتنا (الخيميائي)، عناوين تجذب القارئ، وتحرك فضوله لمعرفة ما يحمله العنوان بين دفتي الكتاب.

(فالعنوان هو علامة لغوية تتموقع في واجهة النص، لتؤدي مجموعة وظائف تخص أنطولوجيا النص ومحتواه، وتداوله في إطار سوسيو  ثقافي خاص بالمكتوب. وبناء عليه فالعنوان هو هوية النص، وبطاقته الشخصية، ليغدو علامة سيميائية تمارس التدليل، تتموقع على الحد الفاصل بين النص والعالم، لتصبح كالشبكة العنكبوتية التي يعبر منها النص إلى العالم، والعالم إلى النص، لتنتفي الحدود الفاصلة بينهما، ويجتاح كل منهما الآخر).                       

فالخيميائي عنوان مارس التدليل على موضوع الرواية، فمنه يستشف القارئ أو الباحث مدلول الرواية. فأغلب القراء يعرفون أن الخيميائي هو الباحث أو المستكشف الذي يستطيع تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، ومن هنا جاءت شخصية سانتياغو بطل الرواية الذي كان راعياً من إسبانيا ثم أصبح خيميائياً، فكانت هذه الشخصية مركبة دينامية تمتلئ كلما تقدمنا في القراءة. لكن الراوي العالم بكل شيء كان يتدخل في السرد، ويهيمن هيمنة مباشرة على تحركات وأفعال الشخصيات، لنلاحظ أن الراوي الأحادي تقنَّع بصوت الكاتب (المؤلف)، وناب عن الشخصية في التعبير. وقد قدمها في المشاهد الحوارية بصوته هو، حارماً إياها من فسحة التعبير عن نفسها بصوتها وبنبرتها. وعلى الرغم من أن الروائي الذي يقدم الراوي العالم بكل شيء سيجد نفسه في كثير من الأحيان يقف أمام حاجز معرفي يمنعه من استبطان الشخصية حتى نهايات أحاسيسها الخاصة والسرية. إلا أن كاتبنا العظيم باولو تجاوز هذه العثرة، وقد تغلبت الشخصية على الراوي العالم بكل شيء، فكان الحوار بصيغته الخارجية (الديلوج) مصحوباً بكلمات الراوي موظفاً بشكل خدم السرد، ومسرحه، وكسر رتابته.

وقد قتلت الرواية نظرية رولان بارت، وأحيت المؤلف وأعادت إليه سلطته عبر شخصية البطل التي كان حافزها السفر والبحث والعثور. أما (الكرونوتوب) أي الزمكان وهو مصطلح لباختين فكانا يتكاثفان في الرواية، ويتراصان حتى أصبحا شيئاً فنياً، فاندماج المكان مع حركة الزمن والموضوع، صبغتا الرواية بطابع فني عالي المستوى، لنجد أن المكان الأول في الرواية وهو المكان (الموهف) (الذي هو الغرفة الملحقة بالكنيسة توضع فيها أدوات القداس والعبادة) الذي تنمو على قارعته جميزة كبيرة، هو نفسه المكان الذي حلم به ذاك اللص رئيس العصابة، الذي يسرق البطل في نهاية الرواية ويتركه واصماً إياه بالأحمق، لأنه غامر من أجل حلم رآه مرتين، لنجد هنا نوعاً من التخاطر الذي يدهش القارئ، بلغة بسيطة إلا أنها عميقة، لها دلالات مفتوحة تحفزنا على الولوج إلى أعماق النص، وإعادة قراءته مرة ثانية، وربما عاشرة. فاللغة صورة الفكر وأداته في آن معاً، إنها رواية ديالكتيك الحياة من وجهة نظر إخوان الصفا والمتصوفين الذين يؤمنون بنظرية الفيض، يبحث بطلها عن أسطورته الذاتية عبر تنقله من مكان إلى آخر، فتتواشج الشخصيات في الرواية بعلاقات تربطها بعضها مع بعض تصب نقطة التقائها عند سانتياغو، فتكون باقي الشخصيات سنداً لإتمام مهمة البطل، فيكون الحب الذي جمعه مع فاطمة دافعاً قوياً لاستمراره في طريق تحقيق أسطورته، عندما قالت له: (إن الكثبان تتغير بفعل الريح، لكن الصحراء تبقى على حالها، وهذا هو حال حبنا).

فهي امرأة الصحراء التي تعودت انتظار رجلها مهما طال غيابه.وكما قال له الخيميائي: يجب أن تعلم أن الحب لا يمنع الإنسان، في أي حال من الأحوال، من متابعة أسطورته الذاتية…فإذا حدث أن منعه فإنه ليس حباً حقيقاً، بل لغة كونية. لنجد أن التناص يلوح بين أفق الرواية كلما هبت رياح المكان في النص الذي فيه (النص) تتجسد مجموعة مقبوسات تعود إلى مدونات ثقافية متنوعة، كما قال بارت. لأنه هناك…حين سيكون قلبك…سيكون كنزك، وهذا نص من الإنجيل وظف في هذا المشهد من الرواية بشكل خدم بناءها، الحكائي والسردي. وقد تجلى التناص بصورة جلية وأكثر وضوحاً عندما ذكر المؤلف قصة قائد المئة، التي ستسحب ذاكرة القارىء فوراً إلى قصة قائد المئة الذي طلب من المسيح شفاء غلامه المريض، في الإصحاح السابع في إنجيل لوقا.

لتقول لنا الرواية: إنه ليس هناك أي اختراع قط، إنما الاكتشاف هو حقيقة الحياة، فما من إنسان يخترع أو يخلق شيئاً ليس له وجود، كما قال الخيميائي لسانتياغو عندما قال له:لقد علمتني لغة العالم.                   

فأجابه الخيميائي: لم أقم إلا بتذكيرك بما كنت تعرفه مسبقاً.          

وهنا تبحر بنا هذه الكلمات البسيطة إلى العقل الكوني، وارتباطنا الوثيق بكل ما نراه وما لا نراه، لتنبثق حياة سانتياغو عند أقدام الأهرامات. ويبشرنا الراوي العالم بكل شيء في نهاية الرواية، أن بطله قد وجد نفسه أو كنزه، وأن على الإنسان أن يحفر داخل وعيه ليصل إلى قاعه، وعندئذ سيجد صورته الحقيقية. وبمجرد أن يعرف من هو، ويحقق أسطورته الذاتية، سيصل حتماً إلى الحرية. وفي طريق الحياة، مهما تغيرت الظروف في الخارج، سيكون شخصاً مختلفاً تماماً عن الآخرين لأن أعماقه ستخلق له عالماً لاينتهي.         

العدد 1105 - 01/5/2024