الشعر المحكي في الشام زمن الاستعمار الفرنسي

يرصد الباحث جورج عيسى في كتابه الذي صدر حديثاً (الشعر المحكي في الشام زمن الاستعمار الفرنسي)، وهو من منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، يرصد الأوضاع الاجتماعية والحياة السياسية والاقتصادية في دمشق وحدها، وذلك من خلال النصوص التي تعبر عن المشاعر الذاتية، والتي تتناول أغراضاً شعرية مختلفة، من التأمل والحكمة والهم والشكوى والحب والغزل والوصف.

و(الشعر المحكي هو الشعر المنظوم باللهجة العامية أو الدارجة، أي الشعر العامي) ويلحق به النظم الفني الذي دخله اللحن، فجاء بين العامية والفصيحة، هذا من ناحية اللغة، أما من ناحية المضمون فهو الفن القولي الذي يعبر عن الوجدان الجمعي للشعب. ويرى المؤلف أن الشعر الشعبي يعرف عن ذاتية الشعب، ومشاعره الوطنية، ونزعته القومية.

ويقول صفي الدين الحلي (1278 ـ 1349م): (إن فنون النظم عند المغاربة ومصر والشام سبعة فنون هي (الشعر القريض، والموشح، والدويب، والزجل، والمواليا، والكان وكان، والحماق).

إلى أن يقول بعد ذلك: (والزجل أرفعها رتبة، وأشرفها نسبة، وأكثرها أوزاناً، وأرجحها ميزاناً، ولم يزل إلى عصرنا هذا وأوزانه متجددة، وقوانينه متعددة). والزجل لغةً: رفع الصوت بما يطرب، بالغناء والترنيم.

ويقول خليل البب اللحام في الشعر المحكي للزجل:

الزجل ما هو دجل يا أهل الشام

الزجل فن وموهبة، ذوق فهم

فيه البلاغة والمعاني واضحة

مابيلزمو قاموس ولا ضارب نجم

ويقف الباحث جورج عيسى في الفصل الثاني من دراسته عند الأوضاع الاجتماعية العامة، والتي عرفتها فترة الانتداب وما تتجلى فيها من مظاهر وانطباعات، حيث التخلف الاجتماعي المتمثل بالأمية والجهل في جميع قطاعات المجتمع، والتكاسل والاتكالية، وعدم البحث عن عمل أو تعلم صنعة، مما يؤدي إلى التسول والاعتماد على معونة الآخرين.

ويقول فخري البارودي عن هذه الظاهرة الاجتماعية:

تلْت الأمة شحادة

والشحادة صارت عادة

جهل وشكوى وبلادة

وبدنا فوقها استقلال

ورافق ذلك بعض مظاهر المدينة الحديثة، كالكهرباء في الإنارة واستخدام (الترامواي) في دمشق، والسكك الحديدية، والمستشفيات والمستوصفات الحديثة التي أنشأتها شركات فرنسية، وبدأ الشعراء كأديب الجابي، وعلي دياب، وميشيل كحلا  يتحدثون عن المجتمع، وما طرأ من تغير وتجديد بعد الانتداب في العادات والتقاليد ووسائل النقل واللباس والعطورات.

فبعد أن كان الناس يتباهون بالخيل والسيف وإكرام الضيف، أصبح التباهي بارتياد الحانات والبارات والسكر والرقص، وتقليد الأجانب في المظهر الخارجي للشخصية والسلوك والحركات، وترديد بعض الألفاظ الفرنسية. ويقول (ع.د):

قلَّدنا الأجانب

بحلق الشوارب

وبنحمل البسطون

ومنرقص شارلستون

وبنقول: مرسي وبردون العرب راح نسيان.

ومن المظاهر الاجتماعية التي تفشت في المجتمع، التلون والنفاق ومحاولة بعض الشباب خداع الآخرين بمظاهرهم المزيفة، ويبعثرون ما لديهم من مال على ملذاتهم الخاصة.

مجوّع مرتو معرّي أختو

منيِّم عيلتو عالحصير

الكذب والمماطلة والقمار، والرشوة، والحسد، شاعت بين الناس، كباراً وصغاراً وبين الإخوة وأهل الصنعة الواحدة، ويقول في ذلك (ابن دمشق):

ما اعتدنا نحب بعضنا ولو كنا إخوان

الحسد شايع فينا كبار وصغار

هادا أصل خرابنا وخراب الأوطان

وفي هذا المجتمع التقليدي المتخلف تكرَّست دونية المرأة، فأصبحت هي أصل الغواية والفتنة والشر. وقد عرف المجتمع جرائم الشرف ضد المرأة وليس الرجل، ويقول أحد الشعراء:

كل البلا من النسوان

وهن أصل البلية

بجهنم فتحوا دكان

وعزموا العزابية

كما وصف الشعراء الشعبيون الحَماة باللؤم والخبث والطمع والدسيسة، ومن ذلك ما قاله حاتم نصري في الحموات:

الحموات البلوات

المصيبات هالستات

كل يوم منسمع سمعات عن أعمال الحموات

كما نرى الشعراء يبالغون عن قصد في تصوير فتيات عصرهن ولباسهن وطيشهن وتطرف سلوكهن. ويظل موقف البارودي وحده الصوت الإيجابي المنفرد، إذ يقول فخري البارودي:

اليوم المرأة مظلومة

وكل أحوالها معلومة

والأم من غير مدارس

ابنها بيطلع حارس

يا إما بيطلع سايس

يا إما بيطلع نشّال

والفصل الثالث مكرس للحياة السياسية من خلال محطات ومواقف، ففي 24 تموز 1920 بدأ الانتداب الفرنسي إلى سورية بشكل عملي عسكرياً وسياسياً، وذلك بعد موقعة ميسلون واستشهاد البطل يوسف العظمة ودخول قوات الجيش الفرنسي إلى دمشق.

وخلال فترة الانتداب أخذ الشعراء والأدباء في كشف الوجه الحقيقي لفرنسا من زيف وكذب وخداع بما تدعيه من المدنية، ومظاهر الحضارة الزائفة، إذ اتبعت في انتدابها همجية رعناء. ويقول الشاعر علي دياب في ذلك:

وبعد أن جربنا لطفك

ترحمنا عالهمجية

وبمجيء الشيخ تاج تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الانتداب، لأن الشيخ تاج هيمن على حياة هذا القطر مدة خمسة عشر عاماً، من عام 1928 إلى عام ،1943 وكان حديث الناس في الشارع والبيت، يتردد ذكره في القضايا السياسية والاجتماعية والتظاهرات والأزجال والصحف. وقد بدأ عهده باتخاذ موقف وطني باتفاقه مع الزعماء الوطنيين للعمل يداً واحدة لتحقيق الميثاق الوطني، لكنه كشف عن وجهه الحقيقي بانحيازه إلى جانب السلطة الفرنسية، وتأييد ما ذهب إليه المفوض السامي.

وتحركت قرائح الشعراء في  فضح الانتداب والعملاء، وعلى رأسهم الشيخ تاج وما تجر سياستهم على الشعب من ملاحقة واعتقالات ونفي، فسلامة الأغواني يقول:

ارحل حاجة تعذبنا

نحنا منك ممنونين

أنت جاية تساعدنا

لما تزيد البلة طين

وتجلت الوحدة الوطنية والوعي القومي في سورية ولبنان في التآلف والتضامن الإسلامي المسيحي، وإخاء أبناء الوطن بكل مذاهبه وطوائفه ضد الانتداب الفرنسي.

يقول محيي الدين البديوي:

كل العالم متحدين

نصارى مع مسلمين

الحرية بغيتنا

والاستقلال غايتنا

ويتناول الباحث في الفصل الرابع الأحوال الاقتصادية وما تحمله من قضايا وانعكاسات، فمنذ الاحتلال الفرنسي لسورية بدأت الأحوال المتردية في جميع مناحي الحياة تزداد يوماً بعد يوم في الحياة الاقتصادية، وتقلبت قيمة النقد، وأصبحت الزراعة عبئاً ثقيلاً على المزارعين، وعاش الفلاحون تحت وطأة الديون والقروض والضرائب، وازداد البؤس ومزاحمة الصناعات الأجنبية على الصناعات السورية، وكذلك الرساميل الأجنبية، فساءت الأحوال المعيشية إلى حد الجوع، وأصبح كثير من الفقراء يشتهون الرغيف، ويقول (ح. أ):

والله قرفنا عيشتنا

والقلة عِميت خلقتنا

ما هو أفضل لو متنا؟

أحسن ما عم نتلعبج

وأدت الحرب العالمية الثانية بشكل عام بالاقتصاد السوري إلى الخراب، بسبب التضخم النقدي ونقصان المواد الغذائية. وخرج الشعب بمظاهرات واحتجاجات بعد تسلم الشيخ تاج رئاسة الجمهورية سنة 1941 تهتف بالأهازيج والشتائم:

شيخ تاج يا بومة

يا بو اللفّة المبرومة

كما وضع فخري البارودي في عام 1923 الميثاق الاقتصادي الذي يدعو لمقاطعة البضائع الأجنبية قائلاً:

انهض بقى يا شرقي قوم

لبس العياري ما بيدوم

وقد اقتصر الفصل الخامس من الكتاب على إيراد النصوص التي تعبر عن المشاعر الذاتية والأغراض الشعرية المختلفة، من التأمل والحكمة والهم والشكوى والحب والغزل والوصف.

كتاب (الشعر المحكي في زمن الاستعمار الفرنسي) بحث مهم تطرق لجميع مناحي الحياة الوجدانية والفكرية والاجتماعية، فقدم صوراً من حياة المجتمع وأحواله، وجاء في 455 صفحة من القطع الكبير، فهو كتاب جدير بالقراءة.

العدد 1105 - 01/5/2024