عبد الكريم أبا زيد.. وداعاً

 يرحل عبد الكريم أبا زيد الثلاثاء الماضي بصمت، يرحل دون ضجيج، وبهدوء، وبذلك تختتم حياة مليئة بالحركة والصخب والاحتجاج ضد الظلم.. يرحل عبد الكريم ملفوفاً بالألم والمعاناة اللذين رافقاه طوال حياته.

وُلد عام 1932 في مدينة درعا، يافعاً، عانى من العوز والحاجة هو وشقيقه محمود.. تعرفا على أفكار الحزب في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وقرنا مصيرهما منذ ذلك الوقت بالحركة الشيوعية السورية. إن عبد الكريم يعتبر أحد مؤسسي منظمة الحزب الشيوعي في محافظة حوران. في عام 1958 يذهب محمود إلى الاتحاد السوفييتي ليدرس الطب، ويصبح فيما بعد طبيباً إنسانياً مشهوراً في دمشق مختصاً بأمراض الدم، وأستاذاً جامعياً يحترمه طلابه وزملاؤه، ويعرفه الكثيرون من فقراء دمشق وحوران وغيرهما من المحافظات السورية، فقد كانت إنسانيته تدفعه إلى معالجة المرضى دون أي أجر في كثير من الأحيان، مع تقديم كل مساعدة ممكنة لهم. توافي المنية محمود في أواخر القرن الماضي، نتيجة الإجهاد والتعب، ويشكل هذا الحدث لعبد الكريم صدمة كبيرة، تركت بصماتها عليه طوال حياته.

يتابع عبد الكريم دراسته في كلية الحقوق في جامعة دمشق، ويساهم بالنضال في صفوف الحركة الطلابية الوطنية الناشطة آنذاك رغم انشغاله في العمل الحزبي والاجتماعي في محافظته، ورغم عمله معلماً ابتدائياً من أجل إعالة والدته وشقيقه. في أوائل عام 1959 ونتيجة الحملة السياسية الظالمة التي تعرض الحزب لها، والهجوم الواسع على الحريات الديمقراطية أثناء الوحدة، يعتقل عبد الكريم، ويظل في سجن المزة ثلاث سنوات طوعاً، لأنه رفض أن يتراجع عن أفكاره رغم الضغوط التي تعرض لها، ورفض أن يعلن براءته من الحزب الشيوعي السوري، ومن أفكاره التي يؤمن بها. وبعد السجن ينخرط من جديد في عمله الاجتماعي والحزبي. كانت لديه رغبة كبيرة في إحداث تغيير انعطافي في البلاد، ذي بعد إنساني واجتماعي وديمقراطي، ولم يتأخر في تقديم كل ما يستطيع من أجل تحقيق ذلك. اختص فيما بعد بالعلوم الاقتصادية في جامعة موسكو، وعاد إلى الوطن مكرساً حياته من جديد لخدمة ما كان يؤمن به.

تأتي المتغيرات العالمية والعربية وتتفاعل على نطاق واسع داخل صفوف القوى التقدمية، وتظهر وجهات نظر متناقضة بين مختلف فصائلها، وينعكس كل ذلك على الحزب الشيوعي السوري، وتبرز آراء غير متوافقة داخله، فينعكس كل ذلك على العلاقات بين الرفاق الذين انقسموا فيما بينهم وتوزعوا اتجاهات وفرقاً. وعلى الرغم من عدم اتفاقي مع عبد الكريم في عدد من وجهات النظر، إلا أن علاقتنا بقيت وطيدة، وبقي الاحترام المتبادل. لم يؤثر خلافنا في الرأي على مواقفه الشخصية، ولقد كانت هناك قواسم كثيرة تجمعنا.. كان يعرف ذلك وكان مؤمناً بالاختلاف والرأي والرأي الآخر، ويعلم أن تعقيدات الواقع الشديدة ستؤدي إلى تباينات، وكان هذا الأمر طبيعياً له. ولذلك كان متسامحاً، بيد أن موهبته الفطرية الساخرة والنقدية وقدرته على التقاط التفاصيل الاجتماعية الصغيرة ليصنع منها موضوعاً هاماً له أبعاده الواسعة، هي ما كانت تميز شخصية عبر الكريم. وللأسف فإن الكتابين اللذين أصدرهما، ويحويان على مجموعة كبيرة من اللقطات الساخرة التي كتبها في صحف متعددة ومنها (النور)، ويعكسان معاناة الشرائح الواسعة والفقيرة من الشعب.. لم يأخذا الاهتمام الكافي بسبب عدم تسويقهما وطغيان ثقافة الاستهلاك والتصحر الفكري اللذين يعاني منهما مجتمعنا.

كان لقائي الأخير معه مصادفة قبل أكثر من شهر ونصف، وتناولنا طعام الغداء معاً في مطعم شعبي. سألته: لماذا لا تبدو مرحاً ومزوحاً كالسابق؟ فأجابني: إنه العوز، ومرت سحابة من الحزن في عينيه العميقتين.. وعرفت كل شيء.. كان حزنه ومعاناته هو حزن ومعاناة وطن.. لم أره بعد ذلك، بيد أن هذا اللقاء سيبقى محفوراً في ذاكرتي ولن يمحى..

وداعاً أيها الرفيق والصديق العزيز عبد الكريم.. ستبقى ذكراك معنا دوماً.

 

العدد 1107 - 22/5/2024