مسألة المواطنة وأبعادها في الدولة العربية المعاصرة (7)

مشكلة المواطنة والأقليات في الواقع العربي المعاصر

يتساءل الباحث المعروف عبد الإله بلقزيز عن الأسباب والعوامل، التي تدفع جماعة ما في المجتمع إلى التمركز حول ذاتها، سواء باسم عقيدة دينية، أو مذهب، أو طائفة، أو إثنية عرقية معينة، أي بوصفها ذات هوية خاصة، والتصرف على أساس هذا الشعور بهويتها الفرعية المختلفة(67).

ويقول: إن لذلك الأمر علاقة بالانسداد الذي يعرفه النظام الاجتماعي-السياسي في مجتمع عصبوي كالمجتمع العربي. وهذا الانسداد يعبر عن نفسه في صورة غياب لحقيقتين سياسيتين لا يقوم أي نظام حديث من دونهما(68):

أولاهما: غياب علاقة المواطنة، من حيث العلاقة السياسية المركزية في المجتمع الوطني الحديث، وفي الدولة الحديثة على السواء.والمواطنة كناية عن توزيع سياسي لأفراد المجتمع على قاعدة الاعتراف بمساواتهم جميعاً أمام القانون، وبتكافؤ حقوقهم تجاه الدولة، على نحو لا تمييز فيه بينهم على أساس العرق، أو الدين، أو المذهب، أو الأصل الاجتماعي.

وتبعاً لتمتّع أفراد المجتمع بحقوق المواطنة التامة، وعلى رأسها حقوقهم السياسية، يمحضون ولاءهم للدولة بصفتها القوة التي تحمي الحق العام-بما فيه المواطنة- وتدافع عن الكيان الاجتماعي. ولأن الدولة دولتهم، فهي لا تحتاج -في بناء شرعيتها- إلى تحصيل هذا الولاء بالإكراه والعنف، بل يقدمه لها الناس (أعني المواطنين) برضاً طوعيّ، إيماناً منهم بأنها كيان جمعي أعلى محايد، ومجرد عن نزعات الإجحاف في توزيع الحق العام، وبالتالي لا شيء يحمل على عدم الطمأنينة إليه، أو تفويت لغيره من المؤسسات الاجتماعية أو العصبوية المختلفة. وليس من شك في أن هذا النوع من العلاقة السياسية القائمة بين الدولة والمواطن، هو ثمرة تعاقد سياسي بينهما، قد يكون مكتوباً (أي دستور)، أو شفهياً، يجري احترامه في كل الأحوال. وهو سمة النظام السياسي الديمقراطي ذي الشرعية المدنية القائمة على الإجماع الشعبي أو حق الاقتراع النزيه.

وبسبب مثل هذه العلاقة مازال النظام السياسي العربي يعاني من الهشاشة والضعف، وبدل تقسيم المجتمع إلى مواطنين، تجري إعادة إنتاج تقسيماتهم على أساس عصبوي كأفراد ينتمون إلى هذه الجماعة أو الطائفة أو العشيرة أو الإثنية أو تلك.

وفي معرض تحليله لهذه المسألة، يقول بلقزيز: (بما أن بنية الدولة في معظم البلدان العربية قائمة على حكم القبيلة والعشيرة والطائفة والمذاهب، أكانت السلطة فيها (مدنية) أم عسكرية، فإن الطبقة الحاكمة تتصرف على أساس عصبوي، الأمر الذي يدفع المجتمع إلى الاحتماء بعصبياته، فتنهار التسوية الشكلية بين الدولة (أي الراعي) و(المواطن) (أي الرعية)، وينشأ ما يسمى بمسألة الأقليات(69)،ومعها مسألة المواطنة.

أما الحقيقة السياسية الأخرى الغائبة، فتتمثل بالافتقاد لمشروع وطني يحصل حوله إجماع سياسي عام. ولا يعني الإجماع هنا إنهاء كل أنواع الخلاف والاختلاف بين الجماعات الاجتماعية المتباينة، بل اجتراح اتفاق عام على  جملة من الأهداف العامة المشتركة، يستحيل قيام أي اجتماع سياسي وتماسكه من دونها. وهذا الإجماع السياسي على مشروع وطني هو الذي يعطي للمنافسة السياسية الديمقراطية معناها، ويضمن استمرارها، ويمنع أي نوع من أنواع العبث بالاختيار الديمقراطي الحر. ودونه، تتحول هذه المنافسة إلى مغامرة سياسية فادحة العواقب، بل تصبح اللعبة الديمقراطية الانتخابية مدعاة إلى الارتزاق وسبيلاً إلى التكسب الشخصي على حساب المصالح الوطنية العامة. ومن نافل القول أن مثل هذا المشروع الوطني،ومثل هذا الإجماع السياسي، مفقود في البلدان العربية كافة، الأمر الذي ينجم عنه تضخم في عملية توليد أو تفريخ مشاريع سياسية جزئية على مثال ومقاس العصبيات التي تنتجها.وعليه، تضطر (الديمقراطيات) العربية الصورية إلى تفصيل اللوائح والشروط والمجالس والمؤسسات التشريعية وغيرها على مقاس المعادلات الأهلية العصبوية القائمة وتوازناتها الموروثة والمتجددة.

ومن سمات هذا المجتمع العصبوي أن حقله السياسي لا يتأسس على قواعد لعبة سياسية عصرية: صراع بين مؤسسات وأحزاب وقوىً سياسية، وتنافس سلمي على اكتساب السلطة، بل هو يقوم على قاعدة من التداخل بين المجال السياسي والمجال الاجتماعي، أي على نوع من التماهي بين بنى السياسة وبنى الاجتماع الأهلي. ويقود هذا التداخل  (التلفيقي) إلى نتيجتين: تحوّل القبائل والعشائر والطوائف والإثنيات (الأقوام، الجماعات القومية أو العرقية)إلى قوىً سياسية، وانفلات الصراع السياسي من كل ضابط وطني، بما في ذلك انزلاقه إلى التعبير عن نفسه في اللجوء إلى القوة واستخدام السلاح، وتهديد الكيان الوطني بحرب أهلية وتفتيت ودمار شامل.

كما أن من سمات هذا المجتمع، عدم استقلال الدولة فيه كمؤسسة، بل تحولها إلى كيان يمثل امتداداً للطائفة والقبيلة والمذهب، وهو ما يشرع بالتالي لصيرورة النظام السياسي نظاما  عصبوياً، قبلياً أو طائفياً. وهذا أيضاً يشكل رديفاً آخر لذلك التداخل التلفيقي، بين صعيد السياسة وصعيد الاجتماع.

والواقع أنه يكاد لا يخلو بلد عربي من هذه (الخلطة) التلفيقية في تكوينه السياسي، وفي القواعد التي قامت عليها دولته (الحديثة)، تستوي في ذلك البلدان التي قامت فيها سلطة (مدنية)، أو التي حكمتها المؤسسة العسكرية، مثلما يستوي في ذلك النظام الجمهوري والنظام الملكي والنظام الأميري، وإذ تمثل هذه (الخلطة) التلفيقية تعبيرا  عن أزمة عميقة في شرعية الدولة والسلطة معاً (70)، وعجزاً كبيراً عن تأسيس مجال سياسي حقيقي وحديث، بل وإقامة أركان الدولة على مقتضى السياسة المدنية، حيث الدولة والسلطة حقٌّ عام، وحيث مبدأ الشرعية (هو) القبول الطوعي والحر للمواطنين بالنظام القائم الممثل للإرادة العامة، فإن استمرار اشتغال الدولة على الآليات نفسها في التكوين والممارسة يهدّد بإعادة إنتاج أسباب الإخفاق السياسي، وتجديد شروط النزاع الأهلي. وغني عن البيان أن الدولة إذ تميل إلى أن تكون عصبوية، أو أداة في يد العصبيات، (فإنها) تهدد بتعريض نفسها للانهيار والتفكك غداة أي امتحان أهلي دموي كبير أو شامل لعدة مناطق وأقاليم.

وبمقدار علاقة دور الدولة، بموضوع بحثنا هذا الخاص بمسألة المواطنة، فإننا نشير إلى دورها في تحقيق التوحيد الاجتماعي. والمقصود  بالتوحيد هنا، عملية صهر التكوينات الاجتماعية المختلفة، ذات الانتماء القبلي أو العشائري أو الطائفي أو المذهبي أو العرقي…إلخ، في بنية اجتماعية جديدة، يؤسسها الانتماء الاجتماعي إلى وطن، وتعلو على كل التشكيلات العصبوية الصغرى القائمة على نظم القرابة (أي الدموية أو الروحية)، والمشتغلة كبنى مغلقة. فدور الدولة هنا هو تأسيس وطن أو كيان وطني، وهو ليس فقط الجغرافيا (أي التراب الوطني)، والتاريخ، بل أيضاً وأساساً الاجتماع السياسي (أي الجماعة الوطنية أو الشعب أو الأمة). إذ إن الشعب-أو الجماعة الوطنية- لحظة عليا في سيرورة التكوين الاجتماعي، أو لنقل إنه علاقة مجردة تقوم بين مجموعات مختلفة تكسر إطار تعريفها الماهوي الخاص والضيق والمغلق، لتتعرف إلى نفسها في دائرة من الانتماء أرحب هو الانتماء الوطني أو الانتماء إلى وطن.

وإذا كنا نتفق على أن قيام دولة وطنية حديثة في الأقطار العربية رهن بقيام هذا الاجتماع الوطني (أي السياسي والمدني) الحديث، فإن من بدهيات المنطق أن نقول إن مثل هذا الاجتماع الوطني لا ينشأ من عدم مطلق، بل يأتي ثمرة تطور اجتماعي وسياسي تقوم فيه الدولة (أو المجال السياسي عموماً)بدور تاريخي مركزي. ويمتنع، في غياب وعي هذه الجدلية، إدراك القوانين التي تصنع حركة تكون الدولة والمجتمع وتطورهما على السواء(71).

«انتهى»

 

الهوامش:

 

 ( 67 ) انظر: عبد الإله بلقزيز ، (دور الدولة في مواجهة النزاعات الأهلية)، مصدر سابق، ص 53.

( 68 ) المصدر نفسه، ص53-56.

( 69 ) المصدر نفسه، ص 54.

(70) للمزيد من التفاصيل، انظر: غسان سلامة، نحو عقد اجتماعي عربي جديد: بحث في الشرعية الدستورية، سلسلة الثقافة القومية، 10(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987).

(71) للمزيد من التعمق في هذا المجال، انظر: غسان سلامة، المجتمع والدولة في المشرق العربي، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي،محور المجتمع والدولة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987)، وخلدون حسن النقيب، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية من منظور مختلف،مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، محور المجتمع والدولة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987).

العدد 1107 - 22/5/2024