الحزن في القصيدة العربية

رزئ الإنسان العربي منذ أقدم العصور بأرزاء كثيرة، كانت نتيجة مباشرة لظروف حياته الاجتماعية والاقتصادية والحضارية.

فالرحيل الدائم بعد ألفة المكان والخلان، والموت للشبان، نتيجة نمط الغزو الذي ساد الحياة البدوية، ثم الحياة السياسية العربية بعد الإسلام، ويالكثرة ما سمع من أشعار تذكر القتلى وتندب الفرسان، وما خلفوا بعدهم من حزن وأسى.

مَنْ كانَ مسروراً بمقتلِ مالكٍ

فليأتِ ساحتَنا بوهجِ نهارِ

يجدِ النساءَ حواسراً يندبنهُ

يلطمْنَ أوجهَهُنَّ بالأسحارِ

أو نسمع من امرأة رثاء أخيها، يواسيها أنها لم تكن وحيدة في رزئها:

ولولا كثرةُ الباكينَ حولي

على إخوانِهمْ لقتلتُ نفسي

ولكنْ لا أزالُ أرى عجولاً

ونائحةً تنوحُ ليومِ نحسِ

بل شاع ذلك الحين نمط من القصائد الحزينة التي يرثي بها أصحابها أنفسهم، بعد أن يتصوروا حدث موتهم وتداعياته على أهلهم وأصحابهم، ومن ذلك ما قاله (الممزَّق العبدي):

هلْ للفتى من بناتِ الدهرِ منْ واقِ

أم هل له من حمام الموت منْ راقِ؟

قد رجّلوني، وما رُحّلْتُ من شَعَثٍ

وألبسوني ثياباً غيرَ أخلاقِ

ورفّعوني وقالوا أيّما رجُلٍ

وأدرجوني كأني طيُّ مخراقِ

وأرسلوا فتيةً من غيرهم حسباً

ليسندوا في ضريحِ التربِ إطباقي

واستمرت القصيدة الحزينة، واستمر الحزن في القصيدة العربية باستمرار الظروف المشكلة للحياة العربية، فالحروب أورثت الموت والدمار، وهما أورثا البكاء والحزن، إضافة إلى الظروف الاجتماعية التي حكمت الحياة العربية، من حجب للمرأة، وعدم إتاحة الاختلاط، مما جعل الحب والحرمان حالة دائمة الحضور في القصيدة. وقد استتبع هذا حزناً وبكاءً وسما قصيدة الغزل العربية في حقب متطاولة من تاريخ القصيدة العربية، إضافة إلى طبيعة الحياة العربية القائمة على الترحال وعدم الاستقرار، مما لا يوفر أجواءً مناسبة لاستقرار حالة العشاق، ودوام اللقاء بينهم:

لما أناخوا قُبيلَ الصبحِ عيسَهمُ

وحمّلوها، فسارَتْ في الدجى الإبلُ

وأبرزَتْ من خلالِ السجفِ ناظرَها

ترنوا إليَّ ودمعُ العينِ منهملُ

وودَّعتْ ببنانٍ عقدُها عنمٌ

ناديتُ لاحملَتْ رجلاكَ يا جملُ!

ويلي منَ البَيْنِ! ماذا حلَّ بي وبها

من نازلِ العينِ حانَ الحينُ وارتحلوا

يا راحلَ العيسِ عجّلْ كي نودِّعَها

يا راحلَ العيسِ في ترحالِكَ الأجلُ

إني على العهدِ لم أنقُضْ مودَّتَهمْ

فليتَ شعري لطولِ العهدِ ما فعلوا؟

وقد استمر الحزن طابعاً وسمة ظاهرة في القصيدة العربية في الفترات اللاحقة، حتى وصلت إلى الحزن الكربلائي الذي شاع في قصائد كربلاء، فوسم الشعر في العراق إلى حقب متوالية وظهر في مختلف أنماط الشعر، وأثر في طبيعة القصيدة أزماناً، فتطاول، كما ظهر الحزن في القصيدة العربية في عدوةِ المتوسط الأخرى، إذ أسس العرب دولة الأندلس، فظهر الحزن في الحنين أولاً، ثم في الغزل استمراراً لتقليد الحب والغزل في القصيدة العربية، ثم في غرضٍ جديد شاع وانتشر في الشعر الأندلسي، ألا وهو رثاء الممالك الزائلة. ومن ذلك ما قاله ابن حمديس الصقلي:

ولو أنَّ أرضي حرةٌ لأتيتُها

بعزمٍ يعدُّ السيرَ ضربةَ لازبِ

ولكنَّ أرضي لا عدمْتُ فكاكَها

من الأسرِ في أيدي العُلُوجِ الغواصبِ

ألا في ضمانِ اللهِ دارٌ بنوطسٍّ

ودرَّتْ عليها معصراتُ الهواضبِ

أُمثّلُها في خاطري كلَّ ساعةٍ

وأمري لها قطرَ الدموعِ السواكبِ

 

ومن ذلك قول ابن شهيد في رثاء قرطبة:

ما في الطلولِ من الأحبةِ مُخبرُ

فمنِ الذي عن حالِها نستخبرُ؟

فلمثلِ قرطبةٍ يقلُّ بكاءُ مَنْ

يبكي بعينٍ دمعُها متفجّرُ

دارٌ أقالَ اللهُ عثرةَ أهلِها

فتبربروا وتغرّبوا وتمصّروا

وفي الغزل يمكن أن نستعير أيّ نصٍّ من نصوصه في الأندلس لنرى آثار الحزن فيه.. ومن ذلك ما قاله أحمد بن عبد ربه:

أقولُ لقلبي كلَّما ضامَهُ الأسى

إذا ما أبيتَ العزَّ فاصبرْ على الذلِّ

برأيِكَ لا رأيي تعرضْتَ للهوى

وأمرِكَ لا أمري وفعلِكَ لا فعلي

وجدتَ الهوى نصلاً منَ الموتِ مغمداً

فجرَّدتَهُ، ثم اتكأتَ على النصلِ

فإنْ تكُ مقتولاً على غيرِ ريبةٍ

فأنتَ الذي عرّضتَ نفسَكَ للقتلِ

وقد استمر الحزن سمةً في القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة. ففي فترة النهضة، كانت الأمة تعاني ما تعانيه من تخلف وجهل وأمية، واحتلال، مما طبع القصيدة بالأسى على أوضاع الأمة والإنسان، ثم جاءت فترة النصف الأول من القرن الماضي، فظهر جيل رومانتي اتسم بحمل الكآبة والإحباط، نتيجة خيبات كبرى وإحباطات متلاحقة.

وظهر شعراء كثيرون عبروا عن المرحلة، وصبغ الحزن شعرهم: أحمد عبد المعطي حجازي، أمل دنقل، محمد عفيفي مطر، علي الجندي، محمد الماغوط، عبد الباسط الصوفي، محمد عمران، علي كنعان، فايز خضور، أدونيس، إيليا حاوي، خليل حاوي.. إضافة إلى شعراء العراق: بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، الجواهري، عبد الرزاق عبد الواحد، النواب، البياتي.. وغيرهم كثير.

وظهرت مجموعات تنضح بالحزن، مثل (حزن في ضوء القمر)، (الفرح ليس مهنتي)، (في البدء كان الصمت)، (الشمس وأصابع الموتى)، (البحر الأسود المتوسط)، (الجوع والضيق…إلخ).

وشاعت القصائد الحزينة، ويمكن التمثيل بكثير من المقاطع، منها ما قاله خليل حاوي:

كانت الغصَّاتُ موجاً

تتلوى ويدوّي

في مضيق

يزحمُ الموجَ الذي يرتدُّ

عن سورٍ عتيق

كان في الغصاتِ

ينحلُّ قناعي

عن فسوخٍ ترتعي

جدرانَ جسمٍ متداعٍ

ومن ذلك أيضاً قول صلاح عبد الصبور:

ياصاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمتُ ولم يزر وجهي الصباح

كما أسهم الشعر الشعبي الذي قاله الشعراء في تلك المرحلة في تثبيت سمة الحزن في الشعر العربي في هذه المرحلة. ومن ذلك ما قاله مظفر النواب:

(لا مُوْ حزنْ

لا موحزن

لكن حزين

مثل ما تنقطع جوّى المطر.. شدة ياسمين

لا مو.. حزن.. مثل صندوق الفرح.. ينباع خردة عشق من تمضي السنين

لا مو حزن..

لكن أحبك من كنت يا أسمر جنين

باختصار كان الحزن طابعاً عاماً وسمة شاملة، يمكن أن نلحظ وجودها في مفاصل كثيرة، زمنية، أو مكانية أو فنية في تاريخ القصيدة العربية. ويمكن أن نلحظ أن الأزمات والنكبات التي مرت بالأمة وبإنسانها، قد زادت من سمة الحزن في فنون القول، وأبرزها.. وأكثرها حضوراً كان الشعر..

وقد زادت من حدة ظهور هذه السمة (الحزن) في القصيدة الحديثة نكبة فلسطين، ونكسة حزيران، وما تلاهما من أزمات قومية مرت بالأمة، طبعت الشعر والقصيدة بطابع حزين، وربما ارتبط ذلك بطبيعة إنسان هذه الأمة، التي تقوم على شدة الحساسية تجاه الأحداث، وردة الفعل الانفعالية التي تتجلى بالحزن والصراخ والبكاء، حتى بدت القصيدة العربية تفيض بالحزن والبكاء في لغتها وعاطفتها وتكوينها الوجداني.

هي أمية ليس الفرح مهنتها، حتى في موضوعات الفرح (الحب) تكون حزينة! لماذا تفرز هذه الأمة كل هذا الكم من الحزن؟ سؤال.. قد يكون له أجوبة منطقية إلا أن الأجوبة جميعاً ستؤدي إلى سؤال.. لماذا نحن؟ هذا السؤال الرومانتي.. الذي قد يفسر طبيعة إنسان هذه الأمة، وربما كان السؤال الأجدر: من أين يأتي الفرح؟!

لا شك أن الحزن الكبير سيولّد إنجازاً كبيراً..

ولكن حزن الأمة يكاد لا ينتهي…

أما آن لهذا الحزن أن يترجل؟!

العدد 1105 - 01/5/2024