شعراء المدن والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في «بابل الشعر»

يطل شاعرنا أحمد عبد المعطي حجازي من جديد، وذلك بعدما أثار جدلاً كتابه الفريد عن قصيدة النثر التي أسماها: القصيدة الخرساء.

وهذا العنوان (بابل الشعر) مقتبس مما جاء في التوراة عن بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين. فقد كانت الأرض كلها لساناً واحداً، ولغة واحدة، حتى انتهى البشر في رحيلهم نحو الشرق إلى بقعة نزلوا بها. وقرروا أن ينشئوا فيها مدينة، تجمع شملهم، ويبنوا برجاً يلوذون به.

لكن الأقدار كانت لهم بالمرصاد، فجعلتهم ألسنة شتى، استحال معها أن يتفاهموا، أو يجتمعوا، وتفرقوا من جديد في الأرض. فبابل في التوراة، كما يقول الشاعر، مدينة البلبلة، والفرقة، أما في كتابه فهي مدينة اللقاء والحوار والتفاهم.

هذا الكتاب يضم أعمال الشعراء الأجانب الذين قرأ عنهم الشاعر، وتعرف على بعضهم معرفة شخصية، وترجم بعض أشعارهم، وقد تحدث عن شعراء الإسكندرية منهم: قسطنطين كفافيس،  وجوزيف أونجاريتي، وفيليب مارينتي.

يقودنا كفافيس إلى الإسكندرية عبر شعره، عبر رحلة استغرقت سبعين عاماً هي عمر الشاعر، وعمر العلاقة بينه وبين مدينته. وهي علاقة أليمة بقدر ما كانت حميمة قاهرة، والإسكندرية ليست خياراً بل هي قدر، إنها مدينة (الموزاييك) البشري، كان يعيش فيها: اليونانيون، والمصريون، واليهود، والسوريون، والرومان، وامتزجت الثقافات لتخلق هذه الحضارة الهيلينية الجامعة.

(لكنك لن ترى من هذا العالم الجديد براً ولا بحراً ولسوف تتبعك المدينة، في هذه الشوارع نفسها ستتسكع وفي هذه الأحياء نفسها ستهرم، وإلى هذه المدينة ستنتهي خطاك).

ولا بد أن نعرف، أن عدداً من كبار الشعراء العالميين، ولدوا في الإسكندرية، منهم قسطنطين كفافيس، ومارينيتي زعيم المدرسة المستقبلية التي كان لها شأن خطير في أدب العصر وفنه، وأونجاريتي أكبر شعراء إيطاليا في القرن العشرين. يقول أو نجاريتي عن الإسكندرية وشمسها:

(أعرف مدينة/ تمتلئ كل يوم بالشمس/ كل ما فيها إذن مغتصب/ ذات مساء دخلتها/ كانت الحشرات تثرثر في قلبها بدأب، من السفينة المدهونة بالأبيض اللماع/ رأيت مدينتي تحتفي/ تاركة للحظة واحدة، عناقاً من النور معلقاً/ في الهواء المضطرب).

كما يحدثنا عن رينرماريا ريلكه، الشاعر النمساوي الذي أحبّ مصر وغنى لها، وصورها في شعره ونثره فأحسن تصويرها، لكن مصر لم تبادله للأسف هذا الحب، ولم تحتفل به كما يجب. يقول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي:

(حين أتحدث عن ريلكه في مصر، أتحدث عن مصر التي رآها ريلكه وعرفها، وتغنى بها في أشعاره ومذكراته. لهذا نحتاج إلى معرفة ريلكه، نعرفه لأنه إنسان وافر الحظ من الإنسانية، ولأنه شاعر وافر الحظ من الشاعرية، أحب بلادنا، ورآها بعينه وعقله وقلبه، فرأى ما لم يره سواه).

ويقول ريلكه كما قال شوقي:

أبا الهول طال عليك العصر

وبُلِّغتَ في الأرض أقصى العمرْ

إلامَ ركوبك متن الرمال

لطَيِ الأصيلِ وجَوْبِ السحرْ

تسافر منتقلاً في القرون

فأيَّانَ تلقي غبارَ السفرْ

وتصبح المدينة موضوعاً من موضوعات الشعر الحديث، كما يقول حجازي، وليست في الشعر وحده، إنما في الأدب والفن. فمن الطبيعي أن تحتل المدينة مكاناً مرموقاً في ثقافة العصر الحديث، فالشاعر إليوت استمد من لندن كثيراً من أشعاره وأفكاره. ولا سيما في قصيدته الشهيرة (الأرض الخراب) وكذلك بودلير، وأبو لينير، وأرغون استمدوا من باريس. وأما لوركا فقد كانت مدن الأندلس مفجِّرة ينبوع الشعر لديه، وكذلك نيويورك، لعدد من الشعراء الأمريكيين والأجانب.

ويقيم حجازي مقارنة بين شاعرين كبيرين هما ويتمان وماياكوفسكي فوق الجسر، جسر بروكلين الذي تحول إلى رمز، هذا الجسر الذي يمتد على نهر هدسون عند مصبه في المحيط الأطلنطي، وحيث قامت مدينة نيويورك، بوابة العالم الجديد. ويتمان يرى الجسر بعين الشاعر الذي شهد تحول الولايات المتحدة من مستعمرة إنكليزية إلى جمهورية مستقلة، فهو يهيب بالأمريكيين أن يواصلوا طريقهم متضامنين، ويؤكد لهم أن حاضرهم ليس إلا استمراراً لماضيهم. (وأنتم الذين ستعبرون من ضفة إلى أخرى /خلال سنوات من الآن/ سيزداد عددكم/ وستكونون في تأملاتي أكثر عدداً  مما تستطيعون أن تقدروا الجمع البسيط/ المتلاحم/ المتراص بقوة/ الذي انفصلتُ عنه أنا نفسي/ والذي ينفصل عنه كل إنسان/ وهو جزء منه/ تشابهات الماضي/ والآتي/). وتأتي قصيدة ماياكوفسكي على العكس، فماياكوفسكي شاعر ثوري مستقبلي، يبشر بالفردوس الآتي ويندفع ليخترق المستقبل، يقول في قصيدته (جسر بروكلين): (لتحمر وجوهكم تحت المديح/ كما تحمر الراية/ ستصبحون  أنتم أكبر من الولايات المتحدة الأمريكية عشر مرات/ أتسلق مزهواً جسر بروكلين/ هكذا ثملاً بالكبرياء جائعاً للحياة).  ويتمان شيخ حكيم يُلقي نظرة إلى الحياة التي تتقدم، وسوف تتقدم من دونه. أما ماياكوفسكي فطفل نزق جائع للحياة، متمرد يحن في نهاية النهار لأرواح المنازل وضوء النوافذ الشفاف. ويتضمن الكتاب ملفاً خاصاً ترجمه الشاعر حجازي، لشعراء فرنسيين تحت عنوان: مختارات من الشعر الفرنسي المعاصر.

منهم: إيف بونغوا، وأوجين جيفيك، وجان جروجان، وجاك دوبان، وميشيل دوجي، وجمال الدين بن الشيخ، وفيليب جاكوتيه، ودوبوشيه، وبرنار نويل وإدوار جيلسان.

وفي حديثه عن الشاعر أوجين جيفيك يقول: ولد عام ،1907 فهو الامتداد الطبيعي للتيار الواقعي في الشعر الفرنسي المعاصر. وهو امتداد إيلوار وأرغون، في شعره غنائية خالية من الزخرفة لكنها عميقة مفعمة بوعي التاريخ وبرحابة إنسانية لا حدود لها.

(كان يمشي في شاعر ما/ الليل، وامتداد منازل، وحوانيت/ ونوافذ، امتداد الحائط. والمعدن أحياناً/ كانت هناك مصابيح/ ومن بعيد لبعيد/ قليل من الكائنات البشرية/ حدث في منتصف الطريق/ بين مصباحين/ أن أصرخ/…

العدد 1105 - 01/5/2024