الأكراد السوريون وتناقضات الأزمة السورية

 لم تزل الولايات المتحدة منذ أن أصبحت اللاعب الأكبر بعد الحرب العالمية الثانية تدير النزاعات في الشرق الأوسط. لكن مع بروز (تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق) كقوة أصولية عابرة للدول، ثم التدخل الروسي المعلن لمواجهة هذه القوة في سورية، بدا أن قيادة الولايات المتحدة للمجتمع الدولي تواجه تحديات حقيقية.

يشكل الوضع في سورية تحدياً حقيقياً للنظام العالمي والإقليمي العربي، لكن بشكل مستمر دأبت الإدارة الأمريكية على عدم التدخّل المباشر. بالمقابل، بقي حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بشكل خاص المملكة العربية السعودية وتركيا، على هامش من التحرك تجانب فيه القرارات الأمريكية، وتستثمر من خلاله تدخلاً صريحاً في الأزمة السورية لمنع -على حد تعبيرهم- (تمادي) إيران في السيطرة على المشرق العربي. ونستطيع أن نفسر أن عدم وجود رؤية أمريكية واضحة لمستقبل سورية، بأنها لاتعود إلى توافقات ضمنية، أو أي شكل من أشكال التعاون مع إيران لإدارة المنطقة، وإنما إلى الطبيعة البراغماتية البحتة للسياسة الأمريكية. وأخذها بعين الاعتبار التأثيرات الروسية في وجهة الصراع في المشرق العربي روسيا، التي تَعتبر سورية حليفاً أساسيّاً لها في المنطقة.

يشغل الجانبَ السوري من الحدود التركية الممتدة على طول نحو 900 كم، عدد من الجهات الفاعلة، ومنها تنظيم (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، و(جيش الفتح)، الذي تهيمن عليه (جبهة النصرة)، و(حزب الاتحاد الديمقراطي)، المعروف بدوره النافذ في هذه المنطقة. وماتزال المعارك العسكرية مستمرة بين التنظيمات الكردية المُمثلة بشكل رئيسي بـ(وحدات حماية الشعب الكردي) و(تنظيم الدولة)، ويشكل هذا الأخير خطراً وجودياً حقيقياً على التركيبة القومية والإثنية الموجودة حالياً. لكن تبقى للديموغرافيا في أقصى الشمال السوري الدور الحاسم في تطور الأحداث، مع الكثافة الكردية العالية فيه. ويسيطر حالياً (حزب الاتحاد الديمقراطي) على ثلاثة قطاعات معزولة في سورية، هي منطقة عفرين في شمال غرب البلاد، ومدينة كوباني (عين العرب) في شمال وسط سورية، ثم منطقة الجزيرة في شمال شرق البلاد. وفي أيار الماضي، استولى (حزب الاتحاد الديمقراطي)، بمساعدة غارات (التحالف الدولي ضد داعش)، على مساحة تقرب من 100كم2 من الأراضي الواقعة تحت سيطرة (تنظيم الدولة) بين قطاعي الجزيرة وكوباني، وهو حالياً يقيم حكم إدارة ذاتية على منطقة في الشمال السوري تبلغ مساحتها تقريباً 40 ألف كم2. وتخشى تركيا الآن من أن يقرّر الحزب الربط بين القطاعات الثلاثة، بعد اشتداد الغارات الروسية على المجموعات المسلحة، من خلال التحرّك أكثر نحو الغرب السوري والاستيلاء على مساحات جغرافية بين مدينتي إعزاز وجرابلس.

من المعلوم أن المكون الكردي المُمثَل بالمجلس السياسي الكردي في سورية هو الأكثر خبرة واستعداداً في مواجهات عسكرية وصياغة توازنات مطلوبة لمثل هذا الوضع العسكري في الشمال، بحكم علاقته مع الدولة السورية، و(حزب العمال الكردستاني) في تركيا، وأيضاً المكونات الكردية الفاعلة في كردستان العراق. ويتكون المجلس السياسي الكردي في سورية من 8 أحزاب كردية. يعتبر هذا المجلس الممثل الأوسع للأكراد في سورية وعلاقاته قوية مع إخوتهم على طرفي الحدود مع تركيا والعراق. لذلك يبدو الأكراد الأتراك متحمسين للتطورات الميدانية المرافقة للغارات الروسية؛ فالأكراد في العراق يديرون شؤونهم بـ(حكومة إقليم كردستان) شبه المستقلة، ومنذ اندلاع الأزمة السورية، أنشأ الأكراد السوريون مناطق مستقلة بحكم الأمر الواقع في الشمال السوري، بدأت على سبيل المثال بعض مراكز البحوث الأمريكية، كمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، بتسميتها (كردستان الغربية). لكن نشوء كردستان جديدة ليس بهذه البساطة، إذ إن هناك عوامل معرفية وسياسية محلية وإقليمية تمنع بقوة نشوء مثل هذا الكيان.

لقد خلق الخلل الاستراتيجي الذي حصل في سورية نتيجة الصراع الداخلي فيها، نفوذاً كبيراً لدول إقليمية وأتاح لها إمكانية التحكم في تطور هذا الصراع، فاتحاً للأكراد فرصة تاريخية وغير مسبوقة للتقدم في مشروعهم القومي، فقد أدى انسحاب مظاهر الدولة السورية عن مناطق انتشار الأكراد في الشمال السوري، دوراً كبيراً في تكريس هذا الفراغ لصالحهم، وجرى استغلال ذاتي عالٍ للتناقضات، واستثمار الدعم الدولي سواء السياسي كان أم العسكري عبر غارات التحالف الدولي ضد (تنظيم الدولة)، مما يعطي الانطباع كما لو أن الدولة الكردية قادمة لامحالة؟!.

العدد 1105 - 01/5/2024