الاتجاه الرومانسي في شعر إلياس أبي شبكة

إن ظهور الاتجاهات الأدبية التي أطلق عليها اسم (الرومانسية) في العقد الأخير من القرن الثامن عشر والثلث الأول من القرن التاسع عشر وجد تعبيره في مجالات الفن المختلفة (الآداب والرسم والموسيقا). وذلك بعد الثورة الفرنسية العظمى، وانهيار الإقطاعية ونشوء العلاقات البرجوازية. وقد كرست التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية هذا الاتجاه الأدبي، وظهر تياران في هذا المذهب الرومانسي: تيار رجعي في أوربا قاوم مقاومة نشيطة أفكار التنوير وعدّها سبباً في مرض روحي عظيم الفتك، ويمثل هذا التيار (شاتوبريان ونوفاليس وغيرهما). وتيار تقدمي يمثله (بايرون وشيللي وهيجو وجورج صاند)، ونجد في إبداعهم جماهير الكادحين الواسعة مرتبطاً بالنضال الثوري وحركات التحرر الوطني.

 

وقد تأثر الشاعر إلياس أبو شبكة بهذا الاتجاه الأدبي الرومانسي تأثراً كبيراً بعد أن درس في باريس وأتقن الفرنسية إلى جانب العربية، فانصرف إلى الترجمة والتحرير، وعمل بالتدريس. كما حرّر عدداً من الجرائد اللبنانية (البيرق، والبيان، والنداء، والمعرض، والعاصفة، والجمهور، والمكشوف، وصوت الأحرار)، كما راسل عدداً من كبريات الصحف المصرية (المقتطف، المساء).

وإلياس أبو شبكة من مؤسسي (عصبة العشرة)، وهي جمعية أدبية تضم (خليل تقي الدين، وتوفيق عواد، وكرم ملحم كرم، وميشال أبي شهلا، وفؤاد حبيش.. وسواهم من أدباء النهضة الحديثة).

وقد كثر نتاجه الأدبي بين شعر ونثر وتأليف وترجمة، حتى وصلت تآليفه إلى ثلاثين كتاباً. ولكن شهرته قامت على مؤلفاته الشعرية، ومن أهمها، (القيثارة، أفاعي الفردوس، الألحان، نداء القلب، إلى الأبد، غلواء).

ولعل أفاعي الفردوس من أجمل وأروع آثاره، فقد قال ميخائيل نعيمة في حديثه عنها: (ما أعرف شاعراً يستطيع أن يأتي بمثلها أو أن يدانيها في وصف الشهوات الجسدية الجامحة)، عبرفيها الشاعر عن تجربة الخطيئة والشهوة، كاشفاً قناع العصر، وخداع الفضيلة، مفجراً ما في النفس من توق إلى اللذة، لا يعادله فيها إلا الشعور بالندم والتبكيت.

يقول فيها:

خيَّمَ الليلُ يا دليلةُ! في الغا

بِ وأغفى حتى الشذا في الزهورِ

فانشقي فورة الحرارة من جس

مي وغذّي قواكِ من إكسيري

أنتِ حسناءُ مثل حيةِ عدنٍ

كورودِ الشارونِ ذاتِ العطورِ

لستِ زوجي بل أنتِ أنثى عُقابٍ

شرسٍ في فؤاديَ المسعورِ

ونقرأ في مقدمة الديوان مفهومه للشعر، ويجري مقارنة بين مفهوم ورأي فاليري، ومفهوم ورأي الأب بريمون الذي يرى (أن كل قصيدة مدينة بطابعها الشعري لتألق هذه الحقيقة الغامضة (الوحي)، وهو في ذلك لم يجئ بنظرية، بل عبر عن شيء يجهله لكنه يشعر به، خلافاً لبول فاليري الذي تعمَّد الإتيان بنظرية يقول فيها: (إذا آمن الشاعر  بالوحي قتل الإبداع).

أما رأي الشاعر إلياس أبي شبكة في هذا الأمر فهو قوله: (كأني ببول فاليري يريد أن ينزل الشاعر منزلة النجار أو الحداد يقبل على عمله ساعة يحين موعد العمل فيكون فاعلاً لا منفعلاً، وهذا امتهان فاضح لجوهر الشعر، وأيان هو هذا الشاعر الذي يصطنع العاطفة اصطناعاً ليعطيك كل ساعة إنتاجاً كالنجار، يعطيك الخزانة في الوقت المتفق عليه).

وفي مقطع من الفصل الثالث من مطوّلة غُلَواء الذي يحمل عنوان (حديث الخيال) يدعو الشاعر إلى قبول الألم ومعاناته، لأنه سبيل الإنسان إلى معرفة نفسه والحياة والله، من خلال نزعة تشاؤمية لا ترى في الوجود إلا الغربة والمنفى والألم.

وشعراء الرومانسية يتغنون غالباً بالطفولة والطبيعة، ويمجدون الآلام الإنسانية ويستسلمون للأحلام والأخيلة.

و(غلواء) هي قصة شعرية طويلة من مئة صفحة، يروي فيها الشاعر قصة حبه لفتاة تدعى (أولغا) حوَّر اسمها إلى غلواء، وتصبح فيما بعد زوجته، والتي قال فيها أبو شبكة يوماً:

غلواءُ ما أحلى اسمَها المعطارا

صبيةٌ تغبطُها العذارى

لا يستطيعُ شاعرٌ أن يبدعا

قصيدةً أجملَ منها مطلعا

تُصوِّرُ الأزهارَ في نوَّارِ

تنعشُها ارتعاشةُ الأنوارِ

تصوِّرُ النسيمَ في الصباحِ

يهزُّ ساقَ الفلِّ والأقاحِ

كما يرسم أبو شبكة صورة التلذذ بالعذاب والتمجيد للدموع التي تغسل الذنوب:

تحرَّكَ الليلُ، فقالَ الخيالُ:

 من ليسَ يبكي في الليالي الطوالِ

ولا يُدمي المقلةَ الساهدة

 من لم يذقْ في الخبزِ طعمَ الألمِ

وينظر إلى مظاهر الوجود والحياة، فيبصر نهايتها منذ بدئها، فهو لا يفرح ولا ينعم بما تنشره الطبيعة من نور، بل يغض بصره عن ذلك، ويشاهد الصباح غروباً، ويقول في ذلك:

من لا يرى في الشمس طيفَ الغروبْ

ويسمع في الليل اختلاج القلوبْ

ويرصد الشمعة حتى تذوبْ

والحب والعذاب مقدسان، ويستعير الشاعر في تمثيل الألم وتمجيده بصورة الصلب والجلجلة، وما توحي به من مرارة العذاب، حين رُفع المسيحُ على الصليب وسُمرت يداه ورجلاه وسُقِيَ الخل والمر بدلاً من الماء.

من ليسَ يرقى ذروةَ الجلجلةْ

ولم يسمَّرْ في الهوى أنملهْ

ويُرفعُ العلقمُ والخلُّ لهْ.

كما يدعو الشاعر إلى التوحد ليذوق المرء بؤس الحياة منذ صباه بعيداً عن الترف والنعيم. والوحدة هي إحدى الخصائص المهمة للشعر الرومانسي، فشعراء الرومانسية يؤثرون الوحدة، ويجدونها حيناً في الطبيعة، وحيناً آخر في المخدع، وينفرون من الأمكنة الصاخبة:

من يصرفِ العمرَ على المخملِ

ولا يذوقُ البؤسَ في الأولِ

ولا الأسى في مخدعٍ مُقفَلٍ

والتعبير عن الذات من خلال بعض المظاهر. وقد اتخذ الشاعر الشمعة التي تُحتضَر كالميت مادة لتأملاته ورمز بها إلى المصير.

وفي قوله:

يا شمعتي، ماذا وراءَ النزاعْ؟

ما هذهِ القطرةُ تحتَ الشعاعْ؟

ولِمَ أرى فيها اصفرارَ الوداعْ؟

وفي قوله (ما هذه القطرة تحت الشعاع؟) كناية عن الدمع، وكأن الشمعة تذرف دموع الوداع والرحيل، متجسداً في ألفاظ رئيسية ثلاثة: النزاع، القطرة، الوداع. أي الموت والدمع والرحيل.

فالسرد الشعري والتوسل بالقصة من ميزات الرومانسيين. والعواطف والانفعالات عند هؤلاء الشعراء تتحول إلى صور مخضبة بالمشاعر، ويعبر عنه الشاعر بخيال حسي:

من ليسَ يبكي في الليالي الطوالْ

ولا يدمي المقلة الساهدهْ

وتطالعنا الصورة الواقعية الحسية. وقد يبدع الشاعر صوراً ليست مقتبسة من الواقع بل من رؤيا الشاعر وانفعاله كقوله:

(من لم يذقْ في الخبزِ طعمَ الألمِ).

ويشرد خيال الشاعر وتتعمق تجربته فيبدع الصور الكونية، ناهضاً إلى الشمول والإطلاق:

من ليسَ يرقى ذروةَ الجلجلةْ

ولم يسمّرْ في الهوى أنملهْ

مزج أبو شبكة العنصر الوجداني بالعنصر الغنائي، وابتدع تجربة غنائية جعل البؤس فيها قدراً، والألم السبيل الوحيد إلى معرفة الذات والحياة.

يقول فؤاد أفرام البستاني: (كان أبو شبكة سريع الاندفاع، وافر الحماسة، شديد التعصب لرأيه، وقولِهِ وشعرِه خاصة، عنيد الرد على مناظريه، عصي التعبير، إلا أنه كان وشيك الهدوء، قريب الرضا، فيعود كما بدأ صديقاً مخلصاً، وفياً سليم القلب، طيب السريرة).

 

 

الهوامش:

1 (المدخل إلى الآداب الأوربية)، الدكتور فؤاد مرعي.

2 (أفاعي الفردوس)، إلياس أبو شبكة.

3(الأدب الحديث في لبنان)، جهاد فاضل.

4 (غلواء)، إلياس أبو شبكة.

العدد 1105 - 01/5/2024