اللغة… الفكر… التطور

اللغة من أهم مقومات الشخصية، وإضعاف لغة من اللغات هو إضعاف لشخصية الناطقين بها، وهي وليدٌ اجتماعي حيٌ متطور، يخضع لكل القوانين الناظمة لعمليات التغيير والتحديث والتقدم والتراجع، وحتى الفناء.

اللغة حاضنة قيم الناطقين بها، ومحصلة خبراتهم وتجاربهم، وصلة الوصل بين حاضرهم وماضيهم، وجسر العبور إلى مستقبلهم، وهي اللحمة المؤدية إلى تفاعل الجماعة وتماسكها وصيانة وحدتها.

الانتماء إلى أمة ما، ليس انتماء عرقياً، أو تعصباً قبلياً، أو ولاء دينياً، وإنما هو انتماء لغوي ثقافي فكري.

ما هي اللغة؟ ممَّ تتكون، كيف تشكلت عبر التاريخ؟ ومن أين احتلت تلك المكانة المائزة لها، بوصفها من أهم مكونات الشخصية الوطنية والقومية؟ وهل هي إنجاز اجتماعي ثقافي تاريخي، متشكل وفق شروط الزمان والمكان  تاريخية اللغة  أم وجدت منجزة كاملة التكوين، خارج قانون التطور والارتقاء، يحكمها الثبات والجمود؟

تصعب الإجابة على تلك الأسئلة دون معرفة علمية دقيقة للعناصر الأولية المكونة للغة، فهي تتألف من مفردات / دوال/، والمفردات تتكون من أصوات (حروف)، هذه الأصوات تتآلف في انتظام وانسجام لتشكل مفردات تدخل في سياقات مختلفة، فتشكل جملاً، ثم تنتظم الجمل في علاقات لها قواعدها الخاصة بكل لغة، لتؤدي معاني وأفكاراً مشكلة مادة التواصل.

فأساس اللغة هو الصوت، والانتقال من الأصوات إلى اللغة، استغرق آلاف السنوات والتجارب، واحتاج إلى جهود جبارة من العقل البشري الذي شكل اللغة في الوقت الذي تشكل هو بها، فالعلاقة بين اللغة والفكر، لا يمكن فصلها إلا لغرض البحث والدراسة. فما كان للفكر أن يوجد دون أداته وهي اللغة، وما كان للغة أن تتطور وتنمو لولا طاقة الفكر الخلاقة.

اللغة تواضع واصطلاح، بمعنى أن الناطقين بها، وبسبب حاجتهم إلى التواصل والتخاطب أوجدوا مجموعة من الوسائل، بدءاً من الإشارة بالأيدي، وتعابير الوجه، إلى إطلاق إشارات صوتية تقلد أصوات الطبيعة والحيوان في عملية تراكمية تواصلية، أدت بعد مجموعة من التحولات العضوية والتطورات العقلية إلى ما يسمى لغة. فاللغة ابنة الحاجة، ولم توجد دفعة واحدة، وهي ككل منجز اجتماعي خاضعة للتطور والتغير والصيرورة، ففيها الثابت (القواعد)، وفيها النسبي (التغيرات الدلالية) لمعاني المفردات، وحرية الاستخدام والاستحداث وطرائق التركيب.

اللغة أحد أهم منجزات الإنسان، فهي أرقى أشكال التواصل بين الجماعة، وهي أداة التفكير، وهي الحافظ لتاريخ الأمة وتراثها. وباختصار شديد قد يخل باللغة وبأهميتها ووظائفها، نختزلها بتعريف ناقص لأن كل تعريف لا يمكن أن يحيط بخصائص المعرف به كاملة: اللغة منظومة إشارية صوتية، اصطلاحية (تواضعية)، تقوم بوظائف متعددة هدفها التواصل، وقانونها التطور والارتقاء، تصبح غاية وهدفاً في الفنون الأدبية.

ينطبق التعريف السابق على كل اللغات الحية، ومنها لغتنا العربية التي تتصف بكثير من المزايا وتنفرد بها، إضافة إلى أنها لغة القرآن الكريم، فهي من أقدم اللغات العالمية الحية، وتحتوي على أكبر عدد من المفردات، نحو 9 ملايين مفردة. وأصواتها تتوزع على أوسع مدرج صوتي للنطق، ومفرداتها خالية من التنافر الصوتي، وحروفها متآلفة في المفردات، إلا ما ندر من الكلمات المهملة… كما أن خاصية الاشتقاق بأنواعه المختلفة، تفتح فيها مجالاً واسعاً للتوليد والابتكار، مما يساعد على تمثل الأفكار الحديثة وآخر ما ابتكر من المصطلحات العلمية والفكرية والفلسفية والأدبية.

تواجه لغتنا تحديات كثيرة وكبيرة، فإن كانت في الماضي قد واجهت بنجاح وتفوق تحدي الثقافة الفارسية واليونانية والرومانية، ثم الثقافة الغربية مع مرحلة الاستعمار، فإنها اليوم تواجه أخطاراً جسيمة، تخص بنيتها التكوينية، وهي أخطار داخلية، كتلهيج الفصحى، وصعوبة القواعد، وأخطار خارجية بفعل العولمة والتقدم العلمي وسرعة الاتصالات (ثقافة الصورة).

الاعتماد على كفاءة اللغة وقدراتها الذاتية، لا يكفي لضمان استمرارها، فهي بحاجة دائمة إلى جهود خلاقة لا تعتمد فقط على مؤهلات اللغة، وإنما تحتاج إلى مواكبة آخر ما أنجز من علم ومعرفة وفكر وفلسفة ينتجها العقل البشري.

العدد 1105 - 01/5/2024