أحمد الزبيدي وإعدام الفراشة… قراءة في مجموعة قصص

إعدام الفراشة عنوان لافت للنظر لما يحمل من الرمز والتعبير والتجميل، وهو إذا كان أوحى لنا بشيء ما فإنه في الوقت ذاته يذكرنا بحداثة العناوين الموحية من أمثال: عرس بغل للطاهر وطار، وذبحت الوردة هل ذبحت الحلم لأسعد الجبوري، ووليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر، ونشيد الكركدن لشاعر من العراق. وهناك المزيد والمزيد من العناوين الحديثة ذات الالتقاء بعنوان المجموعة القصصية لأحمد الزبيدي. والصادرة عن دار الفرقد في عام  2008. وأود أن أشير إلى أن العنوان الموغل في الرمز يعبر عن المستوى الثقافي للكاتب، وإذ حصل التفاوت الكبير بين العنوان والنص فهذا يعني أن إعادة النظر في هذا الكاتب أو ذاك قد حضرت.

وللمقدمات وقع أدبي لم ينسَه أو يتناساه الكُتاب القدامى، فقد كان كل منهم يقدم لكتابه بلغة تعبر عن مضمون الكتاب، وتناسب ذلك العصر من اللغة والمفردات المستخدمة. وحين انتهى عصر التقليد وبدأت الحداثة تفرض وجودها، أخذ المزيد من الكتاب يهملون كتابة المقدمات. وكان بعضهم يستعين بكاتب شهير أو صديق في هذا الجانب لأكثر من سبب. وأما أحمد الزبيدي الذي عاصر وصادق المزيد من الكتاب في دمشق والمدن العربية الأخرى فلا أعتقد أنه من النوع الذي يحتاج إلى من يقدمه، وكل حسبي أنه تجنب الحديث عن نفسه فأوكل المطلوب إلى كاتب متين القلم، فظهرت القوة النقدية في المقدمة المؤلفة من أكثر من عشرين صفحة. وكي لا نواجه بالعتب من المقدم لهذه المجموعة المتميزة فلا بد من ذكر الكاتب الناقد شوكت الربيعي.

ما زلت أصر على جمال الكتابات الرمزية وقوتها، شرط أن يرتبط الرمز بالرموز عبر ترابط لا يسمح بابتعاد الأول عن الآخر، وألا يجعل الآخر طاغياً ومترهلاً على حساب الأول، وإن الرمز الذي ازدحم في القصة الأولى من المجموعة هو الذي يذكرنا بالقوة العقلية للكاتب، وبخيال خصب فلا يستطيع أن يتفوق على العقل. وقد كان من بين الاثنين نتج العمل القصصي صاحب الرموز المتعددة، والتي في أغلبها تنتمي إلى حضارات عربية قديمة، نجد في ذلك الملكة بلقيس ملكة إحدى الحضارات اليمنية القديمة، ونجد أيضاً (التقويم الحميري)، كما نجد أيضاً (الملك سليمان الحكيم) ولا أتراجع إذا قلت إن هذه الرموز ناتجة عن ثقافة الكاتب العميقة، وهو الذي كان يشهد له بالاجتهاد حين كان يعيش في دمشق في عقد السبعينيات، كما عاش معه المزيد من الكتاب والمثقفين في تلك المرحلة الصاخبة.

ومثلما حضرت الرموز الحضارية في مجموعة إعدام الفراشة، تحضر أيضاً رموز سياسية لا يكشف الكاتب عنها بسبب أنها ترتبط بواقع شرقي مرٍّ لا يشعر الزبيدي بمرارته منفرداً، وإنما هناك المزيد من الكُتاب شعروا بهذه المرارة فعبروا عنها بالطرق الرمزية، واستطاع بعضهم أن يصل إلى قلب القارئ بسهولة، بينما كان الآخر يتعب في هذا المسير المعقد ولا يستطيع الوصول إلى مرابع قارئه بسهولة أو ببساطة، لأن القراء يختلفون عن بعضهم بالفهم والذكاء. وهذا ما يجعل الرمز مختلفاً عن غيره من الكتابات الواقعية والرومنسية أو كتابات الذين عُرفوا بتبسيط الأشياء لأكثر من هدف. أو لما يخالفه هذا الكاتب الذي عاصر مرحلة صدق النضال، أو ذلك النضال الذي شمخ في عقد السبعينيات فعاش الزبيدي فيه كاتباً مثقفاً. ولربما كان واحداً من بين المناضلين في هذا المكان أو ذاك.

عندما أمعن النظر في مجموعة إعدام الفراشة القصصية أشعر بالحزن لمن لا يستطيعون التعبير عما في دواخلهم بشكل صريح ومباشر. وهذا ما يذكرني بقول صريح لزميلة مثقفة إذ كانت تقول: (إن المعاناة الحقيقية هي أن لا تستطيع قول ما تريد أن تقوله)، ولذلك تكتم الزبيدي أحمد كثيراً في قصة (ربيع الماء الآتي)، فعبر عما فيها بالرموز التي لا يستطيع فكها القارئ البعيد عن عُمان وعن أجزاء عمان السبعينية. ولذلك خسر الكاتب أحمد الهدف المطلوب من وراء القصة، ولكنه ربح العمل الفني عبر لغة عميقة سيمجدها النقاد والدارسون حين يفكون الرموز الغامضة لقصة (ربيع الماء الآتي).

(النعش) هي القصة الرابعة في المجموعة. واختلفت عن التي سبقتها ببعض المشاهد الغرائبية ذات المعنى السوريالي حسب المفهوم الحديث لتلقائية الأمر وغرائبية الصور. إن هذا قد حدث في القصة الثانية تماماً. وتضاءل أمام الرمزية المهيمنة على أجواء القصة كما هيمنت على أجواء القصص الثلاث التي سبقتها. وبهذا التعبير الطفيف أعتقد أن الكاتب يطرق مجبراً على فتحها ولا أقصد بذلك عبر المزاج والرغبات وإنما هو يستعين بمدارس أدبية لمواجهة المحظور ولكنه كان شجاعاً فيما يعبر عن المطلوب بطريقة وأخرى. ومع هذا فهو يعبر عن موهبة أدبية تفرض نفسها بوضوح كامل عن قوة التعبير الأدبي في جوانبه ذات الارتكاز على عقل سليم وخيال خصب يمده بالصور الأدبية ذات التشابك مع صور هذا العالم الواسع، وهو الذي عرفناه بالأدب. فإذن إن القصة الرابعة حملت بين طياتها مدرستين مهمتين إلى جانب الواقع الذي شكل الركيزة الأولى لكل القصص. ولا أعتقد أنني قد نأيت عن التصور إذا ما أحلت هذا كله إلى مرحلة السبعينيات ذات الأحداث الصاخبة في عُمان.

ومثلما كان الزبيدي قد استفاد من المدرستين الرمزية والسريالية، فإنه أيضاً يعرج على فن عربي قديم وهو فن الحكاية، فيستفيد منه في بناء قصته ما قبل الأخيرة (زهران المسكري والمستر تابو)، وهي أقرب من غيرها إلى الواقعية. فكان في هذه القصة العميقة معترفاً بما آل إليه الواقع المرّ وما نتج عن ذلك من فساد وتدهور. وأعتقد أننا كنا على جانب من الحق، إذا أشرنا إلى دوافع الرمز في القصص التي تصدَّرت الكتاب، ثم جاءت القراءة للقصص الأخرى لتؤكد هذا الحدس ولتكشف عن المقدرة العقلية للإنسان المهمش المعذب، وهو الذي يمثل الضحية غالباً بكل ما تعنيه الأحزان والأسف.

في مجموعة إعدام الفراشة ست قصص ومقدمة بديعة خضعت بمجملها لتعبير رمزي مستمد من الواقع العماني بصورة خاصة. ومن الواقع العربي بصورة عامة، ومع هذا فهي تميل إلى مشهد أو مشهدين حملا بين دفتيهما جانباً من السريالية المعبرة والمنسجمة مع واقع القصص ذات المعنى والدلائل العميقة. ولذلك يسجل المؤلف أحمد الزبيدي بهذا القص المتين تفرداً أدبياً، فلا ينأى عن شمولية الأدب العربي من جهة، ولا يختلف عن عمومية الأدب العالمي من جهة أخرى.

العدد 1104 - 24/4/2024