أوكسفورد ترسل أبناءها إلى بيروت!

في منتصف القرن الماضي حضر محمد عبد الوهاب في أول زيارة له إلى حلب ليحيي فيها إحدى حفلاته، وعندما حان وقت الحفلة فوجئ الفنان الكبير بالعدد القليل من الحضور الذي يُعدُّ على الأصابع، وعبر عن حنقه وامتعاضه من الإقبال الضعيف، فأجابه أحد مرافقيه أن من حضروا هم خيرة الذواقة في مدينة الطرب، وهم يحضرون الحفل الأول فإن نال استحسانهم حضر في اليوم التالي حشد كبير، وإن لم يفعل سيكون مصير الحفلات التالية مشابهاً للأولى ما حصل في الحفلة التالية لعبد الوهاب من إقبال جماهيري كبير كان دليلاً على رضا لجنة الحكام عن فنه وأدائه، وهو ما دفعه لتسمية حلب بأوكسفورد الموسيقا العربية التي يعتبر رضاها عنه وساماً يعلق على صدره، حلب التي ينبغي على كل فنان يسعى للتطور أن يسمع أهلها بعضاً من فنه، ويراقب ردة فعلهم على ما قدمه، لأنهم أصعب جمهور يمكن مقابلته والأكثر تطلباً من الفنان. اليوم، وقد مرت عدة عقود على هذه الحادثة، نشاهد شباب وشابات حلب وهم يقطعون ألف كيلومتر ليمثلو أمام لجنة حكام لن نتحدث كثيراً عن سويتهم الموسيقية ومرجعيتهم في هذا المجال حتى لا نُتهم بأننا أعداء الشهرة والنجاح والفن الأصيل! بل سنقول إننا لو جمعنا الموسيقيين وطلاب الموسيقى في حلب وقسمناهم على أربعة لتشكل لدينا عشرات اللجان التحكيمية أسوؤها أفضل من اللجان المعتمدة في القنوات العابرة للقارات. ولو أن لهذه اللجان القول الفصل في تفضيل فلان على فلان لكان الأمر مقبولاً بعض الشيء، لكن الطامة الكبرى هي أن الأمر يتحول بعد فترة قصيرة من بدء البرنامج إلى تنافس بين الدول وليس بين الفنانين، وتصبح شريعة الغاب هي السائدة في التنافس، فمن يمتلك مواطنوه المال الكافي لإرسال رسائل تصويت كثيرة له قصبة السبق في هذه المنافسة، كما أنه لا أمل لمتسابق عدد مواطنيه لا يربو على بضع ملايين في التغلب على منافسه الذي ينتمي إلى دولة يتكاثر عدد مواطنيها بالانشطار. ورغم كل تلك المهازل التي تحدث على مدار السنة في عالمنا العربي الذي يعاني فنه الأصيل من الاحتضار لا يزال هناك من يتحدث عن الفن السوقي والهابط، فما الذي يأمله الناقد الفني وهو يرى أن جمهور الفن الهابط هم من يختارون فنانيهم بعملية ديمقراطية فنية؟ نعم هناك بصيص أمل ضئيل يظهر في إكسفورد الموسيقا العربية، فقد بدأ الحلبيون المحاصرون بإطلاق برنامج محلي لاختيار المواهب الموسيقية، حكامه إثنان من الموسيقيين الذين لهم باع طويل في هذا المجال، وهو إن كان يفتقد التغطية الإعلامية ويعتمد على التصويت أيضاً، فإنه أكثر فعالية من بقية البرامج لأنه يستقطب أصحاب الذائقة الموسيقية الذين أفلتوا من براثن الموسيقا التجارية، ووجدوا أن هذه الخطوة رغم ضعف تمويلها وانتشارها هي أقوى أثراً من تلك التي ترعاها كبرى الشركات العالمية. نعم هذه الخطوات الصغيرة هي خير من البقاء (كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول).

العدد 1105 - 01/5/2024