شيء من الجنون

للجنون تعبيرات في ثقافتنا الشفوية، ومنها أن تعبير نصف العقل صحيح أنه يشي بالجنون، لكنه يشي  أيضاً بالبحث عن النصف الآخر، النصف الذي يتوسل المرء إيجاده وربما يتواطأ مع القدر بأن غيابه نعمة على الأرجح. فالقول بالعقل الخالص في مثل هذه الأيام الحالكة-على سبيل المثال هو قول تجانبه الدقة أحياناً، ويعتوره النقصان أكثر الأحيان، فلا يمكن أن تقول لأحد ما كيف حالك إلا ويجيبك جرياً على عادة غريبة: لست بخير فهل كان السؤال جواباً كما هو الجنون جواب على واقع متعال لا يفصح إلا عن جماليات قبحه، أما الجماليات الأخرى فهي قيد البحث والاستقصاء، على قيد هاجس أصبح بالمصادفة والضرورة معاً هاجساً كونياً.

في فيلمها الشهير قالت الفنانة يسرى: (أنا لا عاقلة ولا مجنونة)، فهل كانت تقصد أنها في منطقة ما بين الجنون والعقل، وهذه -المنطقة- التي يبحث عنها الناس، فبصعوبة أن يعثرون على جزء منها ويحتفظون به طويلاً، فهم إذاً على حافته الشاهقة ينتظرون حتى يداهمهم الذهول وتكاد جلّ مروياتهم بدءاً من (المشاؤون)،  الذين يخترقون الطرق وليسوا مضطرين لانتظار حافلة قد تأتي ولكن لا محل لهم فيها، ومروراً بمن أصبحوا أسرى العالم الافتراضي، فهم قد وجدوا فيه حقيقة تواصلهم، ولا يهم ان ابتكر البعض أقنعة واسماً له وتوارى وراء وجه فنان ما أو لوحة تشكيلية ليختفي، ظناً منه أنه أصبح أكثر قدرة على التجريد وعلى إحاطة ذاته بسور واق، حيث لا أحد يستطيع معرفته، فيما هو يستطيع أن يعرف أكثر، ويقف ليس على ما يتخيله بل ما يراه.

في الجنون الكامل يبحث الوعي عن أكثر المناطق إضاءة ليعلل حدثاً حدث ولم يحدث، فيما العقل يتوسل أن يجد مكاناً صريحاً ليضبط الأشياء إيقاعاً وصورة، ويقولون طوبى لمن لا يعرف كل شيء، فقد باتت المعرفة وبالاً على الناس، لا نقصد هنا العودة إلى التجهيل أو امتداحه بقدر ما نقصد أننا والعقل خطان متوازيان لا يتلتقيان إلا بمشيئة ما.

والجنون في الابداع أصبح فنوناً، فلا شأن لعابر في الطريق إلى الشعر، ولا شأن لمن يضع في المكيال خضرة وبضع فاكهة أن يكون روائياً أو زجالاً أو فناناً تشكيلياً، فهل قسم الواقع المعيش الأرزاق الإبداعية على الجميع؟ وأصبحنا بحكمه -الواقع- أكثر قدرة على الإبداع ومن كل حدب وصوب، لا شرط للموهبة أو التعلم فقط تطلق الفطرة لأقصاها، لتلون فجوات ما تركه السادة كبار الكتاب وما غفلوا عنه وما قد نسوه.

هنا يحفر الجنون أخاديده العميقة في الواقع، ليمشي الواقع ذاته بمحاذاة هؤلاء، ليظهروا على السطح وكأنهم صدى اللحظة، ذلك الصدى المستمر ليصبح صوتاً ليس بوسعك إزالته بيسر.

أما وقد أصبحت لدينا نعمتا الجنون والنسيان، لكنه ليس الجنون الأقل وليس النسيان الأكثر فداحة مما يذكرنا به الواقع في كل مروياته ومتعالياته ومتخيله، والذي يبدو أنه قد جاوز المدونات العظيمة التي جعلت من الجنون ذات يوم مجازاً جميلاً، ولم يخطر في بال مبدعيها على الإطلاق أن يصبح الجنون نمط حياة، بل شكل حياة لمن يعيشون الآن لمعظمهم وإن تقنع بقليل من العقل وتهذيب اللفظ وعدم الارتباك في السرد.

في امتداح الجنون أسى لشقاء العقل إذ أنه ليس بمنجاة على أن يمنحنا القدرة على التحليل والتفسير والتركيب، ولذلك اشتققنا له تعبيراً موازياً هو (العقل البارد)، فبواسطته ينأى الجنون ولو قليلاً عن مخيلتنا الطليقة بما يكفي لأن تسايره -الجنون- وتربت على كتفيه، فقد أصبح قوام إنسان مكتمل لكن لسانه مربوط!.

العدد 1105 - 01/5/2024