الحرية.. نسغ الثقافة وشريانها

(الثقافة) في الموسوعة الحرّة تعني صقل النفس والمنطق والفطانة، وهي في عصرنا الحديث دلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات. فالثقافة ليست مجموعة من الأفكار وحسب، لكنها نظرية في السلوك، باعتبارها مُركّباً يتضمّن المقدسات والمعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات.

إذاً، الثقافة بهذا المعنى ضرورة حتمية من ضرورات وجود المجتمعات وارتقائها، لأنها تدخل في نطاق كل الأنشطة البشرية، وهذا ما يميّز المجتمعات بعضها عن بعض، مثلما يميّز بين الأفراد أيضاً.

ولهذا، شهد التاريخ البشري حالات متميّزة من المبارزات الثقافية (معلّقات سوق عكاظ، جائزة نوبل للآداب والعلوم.. الخ) التي تحفّز التنافس والتنوّع، ورصدت الجوائز المتنوعة في قيمتها المادية والمعنوية، من أجل الوصول إلى مستوىً أرقى ومتجدد في الثقافة والآداب والعلوم كافة.

لكن المُطّلع اليوم على بعض الأعمال الأدبية أو الفنية الفائزة بالجوائز الأولى، يُصاب بالدهشة أن تكون الأعمال الفائزة بهذا المستوى المتدني الذي يُجافي عراقة الثقافة المنشودة، مثلما يشعر بالخيبة من العجز الفكري والثقافي الذي يسود الساحة الأدبية والثقافية اليوم رغم الانفتاح الواسع على الثقافات الأخرى.

لا شكّ أن ذلك يعود لأسباب شتى، أهمها غياب حرية الرأي، بسبب تشديد قبضة الرقابة على المثقفين، مما أدى إلى انكفاء بعضهم بعد ما لاقوه بسبب آرائهم وطروحاتهم الجريئة، وبالتالي إفساح المجال أمام أشباه المثقفين ممن يمتطون صهوة المحاباة والتدليس لاحتلال مناصب وأماكن لا تتناسب وضحالتهم، لكنهم للأسف يُصبحون بين يوم وليلة أمراء الثقافة وسادتها،
مما ينعكس سلباً على الثقافة والمثقفين والمجتمع برمته، لما للثقافة من دور هام ومؤثّر في كل مجالات أنشطة الدولة والحياة الاجتماعية لعموم الناس، وبالتالي كلما منحت السلطات المعنية بحياة الناس (السياسية والاجتماعية والدينية) مساحة أكبر لحرية الرأي والكلمة،
ازدادت قيم المعرفة لدى الأفراد، وتنوعت اتجاهاتها، مما يُضفي على المجتمع برمته حركة تنويرية تدفعه إلى مصاف الدول المتحضّرة والراقية، والعكس صحيح، فكلما ضيّقت هذه السلطات على الأفراد وقلّصت مساحة الحرية،
انكفأ المجتمع وتراجع على كل المستويات، ليكون في حالة من التخلّف تدفع به نحو الانحطاط الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي وحتى الديني، وهذا ما يبدو جليّاً اليوم في ظل ما يجري. فهل لتلك السلطات كافة أن تعي حجم المخاطر المحدقة بها وبالمجتمع على حدّ سواء..؟

 

العدد 1105 - 01/5/2024