الاتفاق النووي الإيراني.. والاختراق الإيديولوجي

جرى التوقيع عام 1968 على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وبلغ عدد الأعضاء الذين انضموا إليها 111 دولة حتى عام 1979. وجاء في أحد بنودها السماح لأي بلد أن يصل إلى مرحلة قريبة من إنتاج السلاح النووي دون أن يشكل خرقاً للمعاهدة، وهذا يعني أن إيران لم تخرق المعاهدة، ورفضت إسرائيل التوقيع عليها. وتشير التقديرات إلى أنها كانت تمتلك قدرات نووية عسكرية، ويعلم أن عقد الاتفاقات والمعاهدات شيء وتنفيذها والالتزام بها شيء آخر، فهناك عدد كبير من الدول التي تقف على عتبة إنتاج السلاح النووي من بلدان ما يسميه الغرب (العالم الثالث). الأرجنتين وتايوان وجنوب إفريقيا سابقاً خلال عهد النظام العنصري موقعه على المعاهدة، ولكنها لم تلتزم ببنودها. لقد فرض الحلفاء على ألمانيا إثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، عدم إنتاج الطائرات المقاتلة والسفن. إلا أنه في عام 1955 أذن لها بإنتاج الأسلحة باستثناء السلاح النووي، وكذلك اليابان التي عادت لإنتاج صناعات عسكرية كانت محظورة. ولكن القاسم المشترك بين هذه الدول يتمثل في أنها ليست في موقع المقارعة للولايات المتحدة وحلفائها، إن لم تكن في موقع الحليف.. لهذا السبب كان يغض النظر عنها.

وأجاز العقل الاستعماري لنفسه حقوقاً يقول عنها إنها أخلاقية لتسويق وفرض مفاهيم ومصطلحات مرتبطة بهذا العنوان (مناطق خالية من الأسلحة النووية)، و(نزع السلاح) و(فرق التفتيش)..، وهو يختار هذه الحدود أو تلك من الجغرافيا بتاريخها وإنسانيتها ليترجم أخلاقه الخاوية من القيم الإنسانية الحقة.

وأطلق مفهوم (العالم الثالث) على دول وشعوب متعددة الحضارات والأعراق والثقافات في سياق نكرانها ونكران أي دور لها. وهو مصطلح غامض إلى حد بعيد: فهل هو الدول التي رزحت تحت الاحتلال والاستعمار، أو الدول النامية والأقل تطوراً اقتصادياً واجتماعياً، أم هو العالم الذي ليس من حق شعوبه ودوله المناوئة لسياسات الرأسمالي بأن تستقر وأن تقرر مصيرها بنفسها؟ حولوا العالم معهم إلى رقعة شطرنج، تحرك أفكارهم الخبيئة العديد من قادة الدول ومصير شعوبهم، كما يتلاعبون بأحجارها. وكانت بين هذه إيران خاصة ما بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الشاه الذي كان يلعب دور الدركي الأمريكي – الغربي في المنطقة العربية، من محيطها إلى خليجها. يصبح الكذب حقيقة، والقتل والتدمير أسلوباً لحماية المدنية والمدنيين، وآراؤهم المزيفة فتاوى تحمل المدافع والرصاص لنشر (الديمقراطية)، ديمقراطية الإبادة والتشريد، وباسم الإنسانية ليس هناك أكثر بدعة وتزييفاً للتاريخ وعدوانية على جغرافيا الحضارة الإنسانية، لجؤوا إلى معاييرهم المزدوجة ليبرروا ابتزازهم السياسي الاجتماعي للشعوب الأخرى التي لا تدور في فلكهم، فامتلاك التكنولوجيا النووية من قبل حلفائهم هو للحفاط على الأمن والسلم العالمي، وحق طبيعي ويخدم الإنسانية ومنطقها (العادل)، وتصبح هذه القدرات محركاً مشروعاً للتطور الاجتماعي والعلمي بكل مقاييسه، ولن تكون هدفاً من الجيران. وبما يمتلكون من قوة غاشمة تزويراً وتغذيها ثقافة التزوير والخداع والتضليل، تأسست على حكم معرفي مسبق، ثقافة الاستعلاء والإلحاق، ثقافة النهب والاستغلال، القائلة بتميز العرق الأبيض الذي يجب أن يسود ويقود، ثقافة أباحت لأصحابها إبادة الهنود الحمر في أمريكا، واستعباد الإفريقيين، وخلق نمط الإنتاج العبودي، وأعادت نمط الرق في مراحل البشرية المتقدمة في أوربا بعد الثورة الصناعية ولأسباب اقتصادية بحتة. ولم تتوان عن التزييف والتشويه لدور الحضارات الأخرى في بناء الحضارة الإنسانية الشاملة، حتى تلك المجتمعات الأكثر تخلفاً في النسق البشري، وينكرون أنها تحتل مكانة ودوراً في سلم الحضارة الإنسانية رغم كل ما لها من الثقافة والآداب والفنون والعلوم الإنسانية والطبيعية.. وهكذا مثلاً دمروا العراق وحولوه إلى جزر ديمغرافية متهالكة متنازعة فيما بينها خاوياً من قدراته العلمية التي كانت احد أسباب الحقد الاستعماري الأهوج.

جاء الاتفاق النووي الإيراني إيرانياً بامتياز، قبل أن يكون مطلباً لدول الاستعمار والهيمنة العالمية. فقد منح إيران فرصة لالتقاط أنفاسها من حصار غاشم وظالم طال مناحي الحياة كافة، واستمر أكثر من ثلاثين عاماً منذ قيام الثورة الشعبية الإسلامية في إيران، وكان الهدف ضرب القدرات العلمية لإيران ومحاصرتها والمساس بسيادتها القومية، لكن إيران حولته إلى رادار للبحث والكشف عن قدراتها وثرواتها الوطنية وتسخيرها لخدمة المجتمع الإيراني وسيادته القومية، وأكدت أن بحوث الحرب لا تنفصل عن بحوث السلام، وهي معادلة سعى الغرب لطمسها وإعطائها بُعداً واحداً يقوم على الفصل بين طرفيها، ويضعها الاتفاق على عتبة الدولة النووية وهو الخيار المطلوب إيرانياً، وأقرت بحقها في تخصيب اليورانيوم بغض النظر عن نسبة التخصيب التي سمح بها الاتفاق. اتفاق أقر بحق إيران الدولة التي يعتبرها الغرب من دول العالم الثالث، وهنا بيت القصيد، الاختراق الإيديولوجي للفكر الاستعماري، لفكر الهيمنة والتعالي فوق البشر، بأن تكون عضواً في النادي النووي، لما في كل هذا وذاك من إتاحة الفرصة لتطوير قدراتها العملية، وفي مقدمتها النووية، ليعيد الحياة إلى مفهوم السيادة الوطنية والقومية بمعناها الحقيقي، وليؤسس من جديد لمنطق المساواة والعدالة الإنسانية بين الشعوب.. إنه (إنجاز تاريخي)، لا كما تعلن دولة الاستيطان العنصري على لسان رئيس وزرائها نتنياهو قائلاً في لقائه مع وزير الخارجية الهولندي برت كوندارس، إنه (من التقارير الأولوية التي تصلنا يمكن التقرير بأن هذا الاتفاق خطأ تاريخي بحق العالم).

وأعلن في مؤتمر صحفي خاص مع المراسلين الأجانب (إننا لا نلتزم بهذه الصفقة، نحن غير ملزمين بشيء مع الإيرانيين لأنهم يعملون لإبادة إسرائيل)، كلام للاستهلاك الداخلي،  وعبرة للشعوب التي تضع مصالحها واستراتيجياتها المختلفة على أسس علمية تخدم منطلقاتها الوطنية.

العدد 1105 - 01/5/2024