ثقافة مبطّنة

مع تضخم العولمة، لمعت أسماء لشعراء وأدباء لا يستحقون أيّ لقب على ما يكتبون، ربما هم موجودون على الساحة قديماً، لكن مواقع التواصل والصفحات الإلكترونية جعلتنا نرى ما يسمونه شعراً وقصة، مما لا يمت بأي صلة لهما.

والأكثر غرابة أنهم حاصلون على جوائز في مسابقات أدبية، لنعلم مسبقاً أن داعميهم هم الواسطة والمصلحة، ومفتاحهم للفوز هو التملّق والمبالغة بالمواقف الوطنية، والتأييد لكل شيء فقط لمجرد نيل الرضا، والحصول على منصب أو لقب.
باتوا يتصدرون وسائل الإعلام ومواقع التواصل، وباتت لغة المال تتكلم بدلاً من لغة الأدب، فسقط الأدب في هاوية الألفاظ المبتذلة والركيكة، فلم يعد للشعر استعاراته، ولم تعد للقصة حبكتها، وصرنا نرى السجع بدلاً من متعة اللغز، ولم نعد نسمع موسيقا تقطيع الشطر والعجز، وبدلاً من أن تسطع القصيدة وترقص على بحور الشعر، غرقت وسقطت في مستنقعات الثرثرة والتهريج، خاصة في ظلّ هذه الأزمة التي اكتسحتنا، فلم تسلم منها حتى بحور الشعر.

أصبحنا نرى تجّار الكلمة أكثر من تجّار الأسلحة، ولعلّهم أخطر وأشرس بكثير من تجّار المال، لأنهم يعبثون بالفكر ويقتلون بسيف الكلمة ويحيون ببلسمها، وكل طرف جَيّش الشعراء ليكونوا لسان حاله أمام العالم بغض النظر أنهم شوهوا الثقافة، وجعلوها تغوص ببحر من الدم لإرضاء تاريخ بناه الإنسان بلغة القتل بدل أشعار السلام والمحبة.
باتت المصالح تُقَسّم الجوائز والحصة الأكبر لمن يبدع في الإسراف بمفرداته الرنانة، وشعاراته الطنانة، ويعلو التصفيق لمن فاز بفضل السياسة وأمرائها، ناسياً أن حرف الضاد لا يلفظ زاي، بعد أن زين أكتافه براية الوطن الذي لا يستحق منه أي لون، لأن حماقة لسان شعرنا المعاصر صبغت أرض الوطن باللون الأحمر، الذي سقط سهواً عن أكتافه، بعد أن حمل جائزة الزيف.

في زمن الغزو الثقافي الإلكتروني، وانتشار دور الطباعة الباحثة عن المال، بات الشعر كتاباً يُطبع ليوقّع على تصفيق مُدّعي الثقافة وسط مهرجان للمديح بدل الشعر.

وما علينا الآن إلاّ أن نحيي الأدب من جديد، ونفتح سوق عكاظ أمام الكلمة الهادفة والقصيدة المفعمة بالحب تارة، والنابضة بالثورة، الحالمة بالمجد لبلوغ العلا تارة، ونوسع المناهج بأصول اللغة والبلاغة بالإيجاز، بدل الإسهاب وعدم الوضوح بالمغزى.
نفتتح بلاط القصيدة والقصة، بالمبارزة بسيف الكلمة وصراع الحروف، وليكون المتبارز من اليافعين يعلو بفكره الصافي حلبة المعاني، معلناً الفتح من جديد، مكمّلاً رسالة الحمداني والمعري، ليرقد بعدها في ظلال حقول القمح التي صنعت لونها الذهبي قصيدة للقباني تحمل معها بذور الحب من جديد، لتغرس الكلمات والمعاني الخالدة على جدران جُلّقَ، مع معلقات سبع من أبطالها عنترة، لم تكفِ للكلام الجميل أرادوها عشرة، وكان للقيسي منها نصيب.

هكذا يمكن أن نعيد للثقافة مجدها، ونحررها من قيود سياسة الكلمة، وعصر التنظير.

 

العدد 1105 - 01/5/2024