أوراق فقدت عبيرها

منذ آلاف السنين, طور البشر سبلاً للتواصل بينهم, واستخدموا الرسائل بكل أشكالها المتنوعة, وأهدافها المختلفة, كوسيلة لنقل أوامرهم, وإيصال أخبارهم وأحوالهم, وغدت كتابة الرسالة فناً, يحتاج إلى مهارة لغوية كبيرة, لتعبر ببضع كلمات عن المراد, ببلاغة عالية, تخطف العقول, في رسائل الدول والسلاطين والأمراء, وتأسر القلوب, في رسائل الحنين والشوق, للأحباب والأصحاب, فبين الماضي والحاضر, مرت الرسالة بتغيرات كبيرة, أثرت بدرجة ما, على مفهومنا عنها واستعمالنا لها.

لقد تحولت الرسالة في السنوات الأخيرة, إلى رسائل جاهزة فارغة من المعاني الحقيقية, ليست سوى جمل كتبت سابقاً بأيدي الآخرين يتم إرسالها من جديد, فهي بالتالي غير مهمة, لأنها لاتحمل دلالات مميزة, لكلا الطرفين المرسل والمتلقي. أما عن الرسائل التي ترسل عبر برامج الدردشة الحديثة, فهي مجردة تماماً من مضمون الرسالة ومفهومها الفعلي,
لا تتعدى أن تكون حديثاً مكتوباً في فضاء افتراضي, مليء بالأخطاء اللغوية والتعبيرية, وبكل انفعالاتنا المؤقتة, فكثيراً ما نتسرع بردود أفعالنا, فنكتب رداً مبنياً على ثورة غضب, أو على سوء فهم قصد الطرف الآخر بشكل صحيح, ونرسله بكبسة زر واحدة, نندم عليها بالثواني القليلة التي تليها, فنبدأ بتبرير موقفنا ونضطر للاعتذار, عن الكلمات الجارحة, وسوء الظن الذي صدر منا,
فنحن لا نمعن التفكير كثيراً في الكلمات التي نكتبها ببرامج الدردشة, فهي تخرج عن سيطرتنا تماماً في لحظة خاطفة, كما تخرج الحروف من أفواهنا, ولقد أصبحنا نستعين بالملصقات التعبيرية الموجودة في هذه البرامج, لوصف مشاعرنا, ومساندة كلماتنا, لتصف حالنا بشكل أفضل, وذلك يدل بدرجة ما على ضعف قدراتنا في الإفصاح عن مبتغانا.

فرغم فوائد الرسائل الإلكترونية الكثيرة, التي ألغت ساعات الانتظار الطويلة والأيام, وقلصت المسافات البعيدة, وأصبحت الأنسب لمتابعة وقع الحياة العصري والسريع, إلا أنها سلبت منا متعة قراءة الرسالة الورقية, وما تحمله من صدق وشفافية, ونبض خاص, فهي تتميز بأنها الأقدر على نقل المشاعر والأحاسيس,
فملمس الورق الناعم يعزز معاني الكلمات, وألوانه رموز بحد ذاتها, وكلما كان شكل الورق أنيقاً أكثر, دل على درجة اهتمام المرسل بالرسالة, كل هذه العوامل تجعل الرسالة الورقية, تحمل قيمة معنوية إضافية, لا يمكن التغاضي عنها, فالكتابة تؤمّن مجالاً للتعبير الوجداني, يسمح لكاتب الرسالة التركيز في معاني جمله, والاعتناء أكثر بانتقاء المفردات, التي توضح مكنونات قلبه.

عندما يرسل ولد غائب إلى أمه, خطاباً خطّه بيده, لا تبدأ الأم عادة بقراءة الكلمات, بل تستنشق رائحة ابنها من على الورق, وتضمها إلى صدرها كأنها هو, وتتلمسها بيدها وتمرر أصابعها عليها, كما كانت تفعل عندما ترتب خصلات شعره الأشعث, وبعد ذلك فقط تنتقل لقراءة شكل الكلمات, وبدايات الجمل والنهايات, تستشعر بإحساس الأم المرهف, أين عبر عن حزنه وشوقه, وعن استقرار أحواله وما صار إليه, ثم تختم كل ذلك بالسماح لوالده بقراءتها لها,
فهي أمية لا تفقه الكتابة والقراءة, ومع ذلك سبرت أغوار إبنها من صحيفات الورق, الذي عطرته واحتفظت به قرب قلبها, فمن دون شك لقد سلبت الرسائل الإلكترونية من هذه الأم, قدرتها على معرفة مشاعر إبنها, من تعرجات خط يده, ومنعتها من تتبع آثار ماء مقلتيه في جمله, وبهذا تكون قد حرمت من نبضه الذي تشرّبه الورق, فلا تستطيع اليوم كشف ألمه الذي يخفيه خلف الحروف الباردة, التي طبعت بلوحة مفاتيح صماء بكماء.

وعندما نتحدث عن الرسائل المكتوبة, فأول شي يتبادر إلى أذهاننا, رسائل العشاق التي احتوت أطهر المشاعر, وأكثرها صدقاً عبر العصور, فقد سجل التاريخ, أن منقبي الآثار القديمة, عثروا في بابل على قطعة قرميد عليها خطوط, وعمرها ٤٢٠٠ سنة, وهي موقّعة باسم غيميل ما تدروك, إلى حبيبته قصيبة, وقد كتب عليها هكذا : (لتهبك شمس (مروك) حياة خالدة, أحب أن أعلم ما إذا كنت بصحة جيدة, فأرجوك أن ترسلي إليّ رسولاً لينبئني عن صحتك, أنا اليوم في بابل ولا أستطيع أن أراك, وشوقي إليك لا يحتمل, أخبريني متى تأتين إليّ لأفرح, وأما أنت فلتحيي طويلاً لأجل حبّي لك).

وهذه القرميدة لا تزال محفوظة كأول رسالة حب في العالم. (راجع محمد الحسن السمان – جمال الخواطر في الأدب والنوادر).

لقد خلدت الرسائل الورقية قصص الحب, وحفظتها من الاندثار, فبات كثير من شباب اليوم, يستشهدون بها, وبنقاء المعاني التي تحتويها الألفاظ, ويحملها أريج الورق المعطر, فهم يعجزون عن التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم, لذلك مازال البعض يلجأ إلى الكتابة على الورق, ليحفز قدراته اللغوية, لتعينه على وصف إحساس الحب والشوق لديه لمحبوبته, وتسجيل أثر وجودها في قلبه, واحتلالها لنبضات خافقة, بحروف تخفي أسراراً خُبئت, بكل فاصلةٍ ونقطة وعلامة استفهام, بكل خطٍّ رُسم تحت كلمة للتشديد على معناها ولفت نظر المرسل إليه لأهميتها, وفي كل شطب وخربشة, ضمن كل حرف كتب بيد مرتعشة,
مشاعر لا حدود لها تنساب عبر الكلمات لتصطف جمل على درجة عالية من الإبداع والشفافية, وتتفجر بمداد القلم ينابيع الحب العفيف الناضج الذي ينتقل عبر الرسالة إليها, فهي أيضاً تنتظر بلهفة واسعة, أن تضع يدها على رسالة منه, وتملأ عينيها بحروفه التي تنقل حبه الصادق إليها, فتقرؤها عدة مرات حتى تحفظها عن ظهر قلب, فهي تعلم كيف تخونه كلماته عند لقائهما, فيلجأ للورق فهو خير منقذ له, لنقل مشاعره العميقة, وما تحتويه من دفء وحنان, تعجز عن حمله الرسالة الإلكترونية التي قد تحذف بثوان قليلة, لهذا فلن تكون قادرة على توطيد العلاقة بينهما وحفظ حبهما وتخليده كما فعلت الرسائل الورقية.

فهل يجوز أن نقول كما يفعل البعض إن زمن الرسائل المكتوبة ولّى إلى الأبد وإن الرسائل الإلكترونية هي الأفضل على الإطلاق ؟

لا أظن ذلك, فرغم تقدم التكنولوجيا مازالت الرسائل الورقية موجودة حتى ولو على نطاق ضيق, فالذين واظبوا على استخدام الكتابة بالورقة والقلم, هم على يقين بأنها الوحيدة التي تستطيع احتواء فيض مكنوناتهم الداخلية, بلا اجتزاء أو اختزال وبلا عبارات مقولبة, فقط كلمات صادقة, يستودعونها في الورق ليحفظها من التشوه الذي أصاب أفكارنا وأساليب تعبيرنا, وحتى إحساسنا لم يسلم من هذا الشرخ الذي ضرب أرواحنا, بسبب ابتعادنا عن الكتابة بشكل عام. ولمن يقول إنه لم يعد لها دور مهم ونحيّت بالكامل أدعوه أن يلاحظ كيف يجري إدراجها في الكثير من الأفلام السينمائية, حيث تكون الرسالة حاضرة فيها,
ومنها ما تبنى أحداث الفيلم بالكامل على رسائل يجري تبادلها بين الشخصيات, كما أن أشهر الكتاب حول العالم وأغلب الروايات التي يعشقها الملايين من القراء, تحتوي على رسائل ورقية, يستخدمها الكاتب ليضفي قوة إضافية على حبكة قصته, ويكمل أحداثها عبرها, ويجعل أبطال الرواية تكتب بنفسها ماتمر به, من فرح وحزن وشوق وحب, فهل يعقل أن يستخدموها إن لم يكونوا على ثقة بأثرها الكبير وقوتها على التأثير في نفوس الجماهير؟! كما أثبت علم النفس, أن للرسائل الورقية قدرة كبيرة في تحفيز قدرات الإنسان, وتنشيط سيالته العصبية, فهي تساعد على جعل الدماغ يفرز هرمونات تخفض من نسبة التوتر عند كتابتها, وتمنح الفرد شعوراً بالراحة والسكينة عند قراءتها.

لا أدعي أننا نستطيع الاعتماد على الرسائل الورقية فقط في هذا العصر, إنما آمل الاستمرار في استعمالها, لما لها من أثر إيجابي كبير من الناحية النفسية والعاطفية, فنحن في زمن أصبح التخلي عن الرسالة الإلكترونية ضرباً من الخيال, فقد استحالت إلى جزء شديد الأهمية في نمط حياتنا المعاصر الذي يتسم بالسرعة والآنية, فحلمنا بالوصول إلى حياة مرفّهة تكنولوجيا, جعلنا نتخلى عن أجمل المشاعر وأروع الأساليب التي منحتنا السعادة, فما الذي سنخسره بعد في محاولاتنا الدائمة لاستخدام أحدث الوسائل الإلكترونية وأكثرها جذباً؟

 

العدد 1105 - 01/5/2024